للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خلق أفعال العباد]

أختم الكلام بمجمل اعتقاد أبي جعفر محمد بن جرير الطبري , وهو نفس الاعتقاد، لكنه أتى بزيادات مهمة، فيجب أن ألمح إليها, ومن هذه الزيادات قوله: وقد خلق الله أفعال العباد.

وهذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة: فهم يعتقدون أن أفعال العباد مخلوقة لله جل وعلا, رداً بذلك على القدرية؛ لأن القدرية ينفون القدر ويقولون: إن الإنسان قد خلق فعل نفسه، وهذا باطل فقد قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:٦٢]، وقال جل وعلا: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٩٦].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق كل صانع وصنعته)، لكن القدرية هجمت علينا بهذه المعتقدات الفاسدة، واستدلوا بأدلة على قولهم هذا فقالوا: أولاً: قال الله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:١٤]، فأثبت بذلك أرباباً معه ـ حاشا لله من ذلك.

وقالوا: إن الله جل وعلا ربط الجنة بالعمل فقال: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:٢٤]، فالعمل هو الذي يدخل الجنة دون غيره.

ونرد عليهم بالآيات السابقة، فقد قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٩٦]، وقال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:٦٢]، ووجه الاستدلال: أن (كل) من ألفاظ العموم، وأن النكرة في سياق الإثبات تفيد العموم.

فإن قيل: فكيف تردون على قولهم: إن العبد خلق فعل نفسه, والله جل وعلا ربط الجنة بالعمل فقال: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:٢٤]، وقال: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:١٤]؟.

ف

الجواب

أن يقال: إن الله قد أثبت في كتابه أنه خلق أفعال العباد, قال سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:٦٢] , وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٩٦] , فكيف تتجرءون على نفي ما أثبته الله جل وعلا في كتابه؟ فإنه يلزم من كلامكم تبديل كتاب الله جل وعلا، فهذا هو الدليل الأول.

الدليل الثاني: أن الله جل وعلا بين أنه خلق كل شيء, وأنه كتب كل شيء في اللوح المحفوظ, ومما كتبه أفعال العباد, كما قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:٤٩].

وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله القلم قال له: اكتب, قال: وما أكتب؟ قال: اكتب كل شيء إلى يوم القيامة)، وتدخل أفعال العباد في قوله: (كل شيء).

إذاً: الدليل الأول: أن الله أثبت لنفسه خلق أفعال العباد، فإن نفيتم ذلك فقد كذبتم القرآن.

الدليل الثاني: أن الله خلق كل شيء وكتب كل شيء, ويدخل في هذا أفعال العباد.

أما الرد على استدلالهم بقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:١٤]، فنقول: للخالق أو الخلق ثلاثة معانٍ: المعنى الأول: إيجاد من عدم, والإيجاد من العدم خاص بالله جل وعلا.

المعنى الثاني للخلق: التحويل من صورة إلى صورة, كتحويل الخشب والشجر إلى أبواب، والحديد إلى سيارة, فهذا يكون للعباد, والله جل وعلا أثبت أنهم خلقوا ذلك إنصافاً وعدلاً منه سبحانه وتعالى.

المعنى الثالث: التقدير, فيكون معنى قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:١٤] أي: تبارك الله أحسن المقدرين, فإذا قدر شيئاً أنفذه لكمال قدرته, أما إذا قدر العبد شيئاً فلا يستطيع إنفاذه لكمال عجزه وضعفه, ولذلك قال القائل: لأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري يعني: أنك تخلق ما قدرت وتوجده في الحيز على وجه البسيطة, وغيرك يقدر أنه سيفعل ويبني، ثم لا يفعل شيئاً منها لعجزه وضعفه, والله جل وعلا يفعل لكمال قدرته، وهذا هو المعنى في هذه الآية فلا صحة لهم فيها والله أعلم، فهذا هو الرد على القدرية الذين قالوا: إن العبد يخلق فعل نفسه فشابهوا بذلك المجوس؛ لأنهم يقولون: إن للكون خالقين.