للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سبيل معرفة باب القدر التوقيف على ما ورد في الشرع]

يقول النووي: وفي هذه الأحاديث كلها دلالات ظاهرة لمذهب أهل السنة في إثبات القدر -أي: وعدم رده وإنكاره- وأن جميع الواقعات بقضاء الله تعالى وقدره: خيرها وشرها، ونفعها وضرها، وقد سبق في أول كتاب الإيمان قطعة صالحة من هذا، في قول الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣]، فهو ملك لله تعالى يفعل ما يشاء.

يعني: هذا الخلق جميعاً والكون جميعاً ملك لله يفعل فيه ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل؛ لأنه هو المالك الحقيقي لهذا الكون.

قال: ولا اعتراض على المالك في ملكه؛ ولأن الله تعالى لا علة لأفعاله.

هكذا قال الإمام النووي، فإذا كان يقصد من ذلك: أن أفعال الله تعالى لا تعتمد على الحكمة؛ فهذا بعيد جداً، وإذا كان يقصد أنه لا يجوز لأحد أن يسأل عن علة القدر، وأن القدر كله معلوم لله تعالى، وقد قدره قبل أن يخلق الخلق، ولكنه أخفى العلة عن الخلق؛ فهذا المعنى صحيح.

قال الإمام أبو المظفر السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب -أي: باب القدر- التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس، ومجرد العقول.

فاحفظ هذا؛ لأنه أقوى كلام في القدر، وهو مذهب سلف الأمة.

قال: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة.

يعني: لا تتعدى قال الله وقال رسوله، وقد قال رسوله عليه الصلاة والسلام: (ثم يرسل الملك فيؤمر بكتب أربع: رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)، آمنَّا بأن الشقاوة والسعادة في بطن الأم؛ وذلك لأننا اعتمدنا على النص، والنص توقيف؛ فلا يجوز لنا بعد ذلك أن نقحم عقولنا في هذا الباب؛ لأن القدر سر من أسرار الله عز وجل.

قال: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس، ومجرد العقول، فمن عدل عن التوقيف فيه -أي: من انحرف عن الكتاب والسنة- فقد ضل وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء النفس، ولا يصل إلى ما يطمئن به القلب؛ لأن القدر سر من أسرار الله تعالى التي ضربت من دونها الأستار -يعني: ستر الله تعالى عنَّا سره في القدر- واختص الله به، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم؛ لما علمه من الحكمة.

إذاً: كل أفعال العباد إنما صدرت لحكمة علمها الله عز وجل.

قال: وواجبنا أن نقف حيث حد لنا.

أي: حيث جعل الله لنا حداً نقف عنده، ولا نخوض بعد ذلك لا بالقياس ولا بالعقل خاصة في باب القدر، فيجب الإيمان والتسليم بغير سؤال عن الحكمة.

قال: ولا نتجاوزه، وقد طوى الله تعالى علم القدر على العالم -أي: عالم الإنس والجن- فلم يعلمه نبي مرسل، ولا ملك مقرب.

أي: لا الأنبياء ولا الملائكة يعلمون سر الله في القدر؛ لأن هذا مما اختص الله تعالى به نفسه.

قال: وقيل: إن سر القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة، ولا ينكشف قبل دخولها، والله أعلم.