للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم عبد الله بن عمر على من أنكر القدر وقال إن الأمر أنف]

[وعن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من تكلم في القدر معبد الجهني البصري، فخرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن نريد مكة فقلت: لو لقينا أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء القوم -يعني: يا ليتنا! نوفق إلى أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى نسألهم عن القول الذي يقوله معبد الجهني - فلقينا عبد الله بن عمر فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله (اكتنفته) -يعني: أحطت به من جانبيه- فعلمت أنه سيكل الكلام إلي -يعني: فعلمت أن صاحبي قد خولني في أن أتكلم مع عبد الله بن عمر - فقلت: يا أبا عبد الرحمن! - وهي كنية عبد الله بن عمر - إنه قد ظهر قبلنا ناس يتقفرون هذا العلم -أي: يطلبونه طلباً حثيثاً، وفي رواية (يتفقرون) بالفاء قبل القاف، أي: يطلبون فقار العلم، ودقائقه ومسائله الغامضة العويصة- يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف].

فأول بدعة القدرية كانت من العراق من البصرة.

وهم يقولون: (لا قدر، وأن الأمر أنف)، يعني: ليس هناك شيء اسمه قدر، والله تعالى لم يقدر شيئاً بل إنه لا يعلم الشيء إلا بعد أن يقع، هذا معنى قولهم: (لا قدر وأن الأمر أنف)، أي: مستأنف غير معلوم لله قبل أن يقع.

وهم بهذا يكذبون الله تعالى في إثبات العلم له، ويكذبون أن الله تعالى كتب مقادير الخلائق كما في الحديث: (إن أول شيء خلق الله القلم، فقال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب كل شيء كان وسيكون إلى قيام الساعة، فجرى القلم بما هو كائن إلى قيام الساعة) هؤلاء يكذبون مثل هذه النصوص في القرآن والسنة؛ لأنهم يقولون: ليس هناك شيء اسمه قدر، كما أن الله تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، وإجمال ذلك في كلمتين: لا قدر وأن الأمر أنف، فأنكروا مرتبة العلم، وأنكروا مرتبة الكتابة.

[فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أوقد قالوها؟ إذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، أي: ليست منهم وليسوا مني].

قال النووي: ورد عبد الله بن عمر هذا دليل على تكفير هؤلاء.

قال: وعلى ذلك انعقد إجماع أهل العلم: أن من أنكر مرتبة العلم ومرتبة الكتابة كفر بالله عز وجل؛ لأنه ينفي العلم عن الله، ومن نفى العلم عن الله يلزمه أن يثبت الضد وهو الجهل، فكأنه يسب الله تعالى.

قال عبد الله بن عمر: [إني سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد ولا يرى عليه أثر السفر، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، فقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فقال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا.

قال: صدقت! فعجبنا له يسأله ويصدقه)].

لأنه ليس من عادة السائل الجاهل أن يصدق العالم، أو المفتي؛ وذلك لأن التصديق لا يأتي إلا من رجل عالم، ثم اكتشفوا بعد ذلك أن هذا السائل هو جبريل وليس سائلاً عادياً، وكذلك مظهره ومخبره يدل على أنه ليس رجلاً قادماً من البادية إلى المدينة.

[(قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأن تؤمن بالله واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر خيره وشر)] وهذه حجة عبد الله بن عمر في الرد على معبد الجهني الذي تكلم بهذا الشيء.

[حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن قال: قال رجل لـ عبد الله بن عمر: إن ناساً من أهل العراق يكذبون بالقدر، ويزعمون أن الله عز وجل لا يقدر الشر -أي: لا يأذن في وجوده وخلقه-، قال: فبلغهم أن عبد الله بن عمر منهم بريء وأنهم منه برآء، والله لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره].

أي: حتى يؤمن بأن الخير والشر من عند الله، وأن الله تعالى علم ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون.

والقدر هو سر الله تعالى في خلقه، ولا ينبغي لأحد أن يتكلم في هذا الأمر، ولا أن يبحثه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا)، الشاهد قوله: (إذا ذكر القدر فأمسكوا) أي: لا تخوضوا في مسائله خوض المجادلين فيه بغير علم ولا طلب للحق.

[وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لن يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر كله خيره وشر)].