للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان ابن القيم أنه لا يلزم من تفسير الفطرة بالإسلام القول بالقدر]

وقد بين ابن القيم رحمه الله بأنه لا يلزم من القول بأن المراد بالفطرة الإسلام موافقة مذهب القدرية.

أي: لا يلزم منه عندما أقول: إن الفطرة هي الإسلام، وإن أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه؛ أنني قدري، ومعنى أني قدري: أني قدمت إرادة الأبوين على إرادة الله، وقدرة الأبوين على قدرة الله، ومشيئة الأبوين على مشيئة الله، بدليل أن الله أراد له الإسلام وجعله مسلماً، لكن أبويه هوداه ونصراه ومجساه.

قال: ولا يلزم من القول بأن المراد بالفطرة الإسلام موافقة مذهب القدرية التي تستدل بحديث الفطرة على مذهبها الباطل.

وابن القيم بدأ يتكلم عن أصحاب المذهب الأول؛ حيث يزعمون أن كل إنسان مفطور على الإسلام، وأنه تعالى لا يقضي ولا يقدر المعاصي على العباد، وهذا كلام القدرية، وأن العباد هم الذين يحدثون الكفر والمعاصي من قبلهم دون إرادة الله السابقة وعلمه الأزلي عز وجل، وأن الأبوين هما اللذان يضلان أولادهما دون مشيئة من الله وإرادته السابقة سبحانه، فالله لا يضل ولا يسعد أحداً من خلقه في زعمهم.

وقد رد السلف على هذا المذهب الباطل، فبينوا أن أحاديث الفطرة لا تدل على مذهبهم، بل إنها دليل عليهم، وهي أقوى حجة، فعندما يعتمد المخالف نصاً ويعتبره دليلاً وحجة له؛ فأقوى حجة للرد عليه: أن تكون من نفس النص.

وبالتالي نريد أن نعرف رد السلف على المذهب الذي ذهب إليه أبو يعلى وابن بطة من نفس الدليل الذي احتجوا به، فماذا قالوا؟ قال الإمام مالك وغيره من أهل السنة لما بلغهم: إن القدرية يحتجون على مذهبهم بأول الحديث، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة)، قالوا: احتجوا عليهم بآخر الحديث؛ لأنه لا يمكن أن يأتي الخبر متناقضاً في أوله وآخره، إذ إن الأخبار كلها وحي من مشكاة واحدة، ولذلك كان ابن خزيمة رحمه الله يقول: الوحي كله من مشكاة واحدة، ومادام أنه من مشكاة واحدة فلا يمكن أن يلحقه التعارض ولا التضارب؛ لأنه كلام الله عز وجل، ومن وقع عنده الإشكال فإنما وقع الإشكال في فهمه وذهنه وعقله، قال: ومن كان عنده نصان مختلفان ظاهراً فليأت إلي أؤلف له بينهما، فالتعارض قد يكون ظاهراً، لكنه لا يمكن أبداً أن يلحق الوحي: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:٨٢]، وإن وجد الاختلاف ففي ذهن العبد، والنص في حقيقته وتأويله عند أهل العلم ليس فيه اختلاف، ولذلك ألف بعض أهل العلم مصنفات جمعت بين ما ظاهره التعارض والتضارب.

فهذا كلام الإمام أحمد بن حنبل في الرد على الزنادقة والملحدة، وهذا ابن قتيبة له كتاب في تأويل مختلف الحديث، وكذلك الإمام الشافعي له كتاب في تأويل مختلف الحديث، وكذلك الإمام الطحاوي له مشكل الآثار، فيأتي لك في الباب الواحد بدليل، ثم بدليل آخر يتعارض مع الدليل الأول في قضية واحدة، ويقول: ها هو الاختلاف ظاهر أمامك، وفي الحقيقة ليس هناك اختلاف، وإنما تأويل النصين على النحو الفلاني، ويأتي بأدلة من القرآن والسنة للدلالة على أن هذا الباب لا تعارض فيه ولا تضارب، بل وجه الحق فيه كيت وكيت وكيت.

فكذلك هنا جماهير السلف ردوا على من قالوا: بأن الفطرة هي فطرة الخلق وابتداء الخلق، وقالوا: الفطرة هي الإسلام، وإذا كان أصحاب المذهب الأول القائلين بأن الفطرة هي ابتداء الخلق قد احتجوا بأول الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة)، وفسروا الفطرة بقول الله تعالى: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:١] أي: مبتدئ خلقهما، فنحتج عليهم بآخر الحديث، وآخر الحديث يقول: (الله أعلم بما كانوا عاملين)، ففيه إثبات العلم الأزلي لله عز وجل، لكن القدرية يقولون: إن الأمر أنف -أي: مستأنف- وأن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، أي: أن الله تعالى لا يعلم ماذا سنصنع بعد خروجنا من هذا المجلس! كذلك أنا لا أعلم ماذا أتكلم بعد كلمتي هذه، وهم يقولون: وكذلك الله لا يعلمها إلا بعد أن أقولها.

فسووا الله تعالى بخلقه، وكأنهم قالوا: ليس الله بعالم ولا عليم، مع أن الله تعالى أثبت لنفسه العلم الأزلي، فهو علام الغيوب، وهذه غيوب هو يعلمها وليست شواهد، وعلم المشاهدة مع علم الغيب عند الله سواء، ((عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)) أي: الذي غاب والذي هو مشاهد في علم الله سواء، فالله يعلم هذا كما يعلم هذا.

إذاً الذي يقول: إن الله تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها وحدوثها ينفي العلم الأزلي عن الله عز وجل، وكلام ابن بطة: أن من فسر الفطرة بالإسلام ضال مضل ومنحرف عن منهج السلف وكلام السلف؛ كلام مردود؛ لأن الله تعالى خلق الخلق جميعاً على فطرة الإسلام حتى أخذ منهم الإقرار بذلك، ثم منهم بعد ذلك من اختار الكفر على الإسلام، وكان ذلك في سابق علم الله عز وجل