للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[توضيح ابن القيم لسبب اختلاف العلماء في تفسير الفطرة في الحديث والرد على القدرية]

وقد وضح مذهب الإمام أحمد في تفسير الفطرة بهذين المعنيين ابن القيم في كتابه شفاء العليل نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية كذلك.

وخلاصة ذلك قال ابن القيم: سبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة في هذا الحديث: أن القدرية كانوا يحتجون به على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله.

أي: أن الكفر والمعاصي إنما أحدثها وأنشأها العباد، ولا علاقة لإرادة الله وقدرته بذلك، وإنما هذا بقدرة العباد وإرادتهم ومشيئتهم، بل بما ابتدأ الناس إحداثه، فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام، ولا حاجة لذلك.

فالإمام أحمد بن حنبل يريد أن يقول لك: لما قالت القدرية: بأن الكفر والمعاصي لا دخل لله تعالى فيهما، وأنهما بإحداث العبد لهما بغير إرادة الله تعالى ومشيئته؛ لأن الله تعالى لا يريد ولا يشاء الكفر ولا المعاصي، فمن أين جاء هذا اللبس؟

الجواب

من عدم التفرقة بين المشيئة الشرعية الدينية والمشيئة الكونية القدرية، إذ إنهم قالوا: الله تعالى ما أراد الكفر، ولكن الكفر وقع في الأرض، وما أراد الشرك وما أراد المعاصي، لكن في الحقيقة والواقع أن ذلك واقع في الخلق وفي الكون.

فالله تعالى أراد من العباد إيماناً وإسلاماً وتوحيداً، لكن العباد أرادوا كفراً وشركاً ومعصية، فكانت إرادة الكفار والعصاة أقوى وأغلب من إرادة ومشيئة الله، فمن هنا أتى الضلال.

وضبط هذه المسألة: أن الله تعالى أراد الخير والشر، وخلق الخير والشر، وأذن في وجود الخير والشر، لكن يفرق بين إرادة ومشيئة شرعية دينية مبناها على المحبة والرضا؛ كالإيمان والطاعة، فقد أمر الله بها في كتابه، وأراد الكفر والشرك والمعاصي إرادة كونية قدرية -أي: أذن الله تعالى في وجود الكفر والمعاصي- لأنه لا يكون في كون الله إلا ما أراد وقدر وشاء، لكن هذه الإرادة ليست مبنية على الطاعة والمحبة والرضا، وإنما مبنية على البغض والسخط واللعن.

ولذلك توعد الله الكافرين مع أنه هو الذي أذن في خلق وإيجاد الكفر، وعلم الله تعالى أزلاً من عبده قبل أن يخلقه أنه سيختار طريق الكفر والمعصية والشرك، مع أنه جعله عاقلاً يميز بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وبين الطاعة والمعصية، وأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب، فقامت الحجة على العبد ليس بالميثاق الأول، وإنما بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وجعلوهم محلاً للتكليف، فلما اختار العبد طريق المعصية علم الله ذلك منه قبل أن يخلقه.

إذاً: العبد هنا مخير، وعلم الله تعالى أن عبده سيختار طريق الكفر قبل أن يخلقه فكتبه عليه، ومعنى: كتبه وقدره عليه: أن الله تعالى علم بعلمه الأزلي أن هذا العبد سيختار طريق الكفر، والآن في واقع الناس وحياة الناس عندما نأتي بطريقين: أحدهما: مليء بالشوك، والآخر: ممهد معبد، وقلنا لاثنين: هذان الطريقان سيؤديان إلى مكان فيه ألف جنيه، وقلنا لهما: نقطة الانطلاق من هاهنا والطريق يتفرع إلى طريقين، ثم يلتقيان عند نقطة معينة عندها مكافأة وجائزة، ونقول لهما: كل واحد منكما يسلك الطريق المناسب للحصول على الألف الجنيه، فهل في هذين الاثنين من سيسلك طريق الأشواك؟ لا يمكن أبداً؛ لأنه يريد أن يحصل على الجائزة والمكافأة، ولا يمكن له البلوغ أولاً إلا إذا سلك طريقاً معبداً، فهذا الطريق المعبد هو طريق الأنبياء والمرسلين، والذي يعصي الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنه يعصيه، وهؤلاء المكذبون الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي، واليهود الذين كذبوه في المدينة وغيرهم ممن كان يقاتله ويحاربه كانوا يعلمون أنه نبي من عند الله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:١٤]، فكانوا يجحدون نبوة نبيهم مع أنهم يوقنون أنه نبي مرسل.

فالذي يزني يعلم أنه يعصي الله عز وجل، ويعلم أن الشرع قد نهى عن هذه المعصية، ويعلم أن النهي محله الزجر، وربما بلغ الزجر إلى دخول النار والعياذ بالله.

وبالتالي فهو بهذا العلم قد قامت عليه الحجة، ومع هذا فقد اختار طريق المعصية التي ناسبت هواه ورأيه، وعلم الله ذلك كله منه قبل أن يخلق السماوات والأرض، ولما علم أنه سيختار طريق المعصية كتب في اللوح المحفوظ أن عبدي فلاناً عرضت عليه الطاعة وعرضت عليه المعصية فاختار طريق المعصية، إذاً: هو في هذه الحالة مختار.

قال: سبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة في هذا الحديث: أن القدرية كانوا يحتجون به على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله، بل بما ابتدأ الناس إحداثه، فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام.