للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رسالة عمر بن عبد العزيز إلى من سأله عن القدر]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

وبعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب الثاني في كتاب القدر هو: بيان مذهب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله في القدر، وسيرته في القدرية.

قال سفيان الثوري: كتب عامل لـ عمر بن عبد العزيز إلى عمر يسأله عن القدر فكتب إليه: أما بعد -أي: بعد الحمد والثناء على الله، والصلاة والسلام على رسوله-: أوصيك بتقوى الله عز وجل، والاقتصاد في أمره -أي: التوسط، وهو درجة بين الإفراط والتفريط- واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المحدثون بعدما جرت به سنته، وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة؛ فإنها لك بإذن الله عصمة -ما التزم أحد بالسنة إلا عصمته من كل بلية- ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها].

أي: ما من بدعة إلا وقد رأى الناس آثارها السيئة في حياتهم، وكان على قبحها وسوئها دليل من الكتاب أو السنة.

قال: [فإن السنة إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل، والحمق والتعمق، فارض لنفسك ما قد رضي به القوم لأنفسهم].

أي: ارض لنفسك أن تسلك في كل باب من أبواب الدين والشريعة ما قد رضيه أسلاف هذه الأمة لأنفسهم.

قال: [فإنهم عن علم وقفوا -أي: توقفوا بعلم- وببصر نافذ قد كفوا، وهم على كشف الأمور كانوا أقوى وأقدر].

أي: هذا الخوض الذي يخوضه الناس اليوم فيما يتعلق بمسائل القدر، والأسئلة التي تنم عن زعزعة الإيمان في قلوب أصحابها؛ كان السلف -لو كانت هذه الأسئلة محمودة وممدوحة- هم أولى بطرحها على النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لما كان هذا أمراً مذموماً كفوا عنه، وآمنوا به.

قال: [وهم على كشف الأمور كانوا أقوى وأقدر، وبفضل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه].

أي: إن كان الهدى هو الذي أنتم عليه اليوم من الخوض فيما لا يعنيكم، فاعلموا أنكم على ملة هي أهدى من ملة محمد! وهذا مستحيل.

كما قال عبد الله بن مسعود لأولئك الذين تحلقوا حلقاً في المسجد، وجعلوا على كل حلقة كبيراً لهم يلقي لهم الحصى، ويقول: سبحوا مائة، احمدوا مائة، كبروا مائة، فوقف على رءوسهم وقال: إما أنكم على ملة هي أهدى من ملة محمد، أو أنكم مفتتحو باب ضلالة.

ولا شك أن الأولى مستحيلة؛ أن يخفي الله تعالى الهدى والحق والخير والنور عن نبيه وعن أصحابه نبيه ثم يظهره لنا، ثم هذا مخالف لأصل من أصول الدين، وهو: أن الأمة لا يمكن أن تجتمع على شر ولا ضلالة ولا باطل، فلأن يدعي رجل اليوم أنه قد وقف على خير وهدى قد حرمته الأمة على مدار أربعة عشر قرناً؛ لهو ضال مضل؛ لأن نتيجة هذا الكلام يهدم أصلاً من الأصول التي عليها اعتماد الإسلام، وهو أن الأمة لا يمكن أن تجتمع على شر ولا على ضلالة، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام.

قال: [فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم: إنما حدث بعدهم؛ ما أحدثه إلا من ابتغى غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، فإنهم السابقون -والله تعالى قد مدح السابقين- فقد تكلموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم من مقصر، وما فوقهم من مجسر].

أي: إما أن يكون إنساناً مفرطاً جداً فيما كانوا عليه غير تابع لهم، وإما أن يكون إنساناً جريئاً جداً يرتكب مخالفة الهدي، ويتبع سبيل غير المؤمنين.

قال: [قد قصر قوم دونهم فجفوا، وطمح عنهم أقوام -أي: رغب عنهم أقوام- فغلوا، وأنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم].

أي: أن طريق السلف بين الإفراط والتفريط، وبين التقصير والجسور، ولم تكن الجرأة والتبجح من طريقهم، وإنما كانوا يلتزمون عند حدود النقل.