للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[موافقة عبد العزيز بن أبي سلمة لكلام عمر بن عبد العزيز في إثبات القدر]

وعبد العزيز بن أبي سلمة رحمه الله تعالى ذكر عنه نفس هذا الكلام الذي ذكر عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، ولعله كلام أدخل بعضه في بعض، أو لعل عبد العزيز بن أبي سلمة حفظ كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله فيما يتعلق بالقدر فأجاب به سائلاً سأله هو، ثم زاد عليه.

قال: [ثم رغبوا مع قولهم هذا ورهبوا، وأمروا ونهوا].

أي: لم يتكلوا على قضية القدر، وإلا من كان يعتقد اعتقاد القدرية فإنه في نهاية أمره يقول بمذهب الجبرية وهو: تعطيل الأمر والنهي.

وبالتالي فكل شيء مجبول ومجبور عليه العبد، إذاً: فلم نؤمر ولم ننه؟ ولا غرو إذ يقول أهل العلم: إن أعظم مفسدة للقدرية: إبطال الشريعة؛ لأن الشريعة قامت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي يقول: بأن أفعال العباد أو أن العباد مجبورون مقهورون على أفعالهم لا حيلة لهم في ذلك؛ فلابد أنه يقول: لم الأمر إذاً؟! ولم النهي إذاً؟! وأما السلف فمع إيمانهم بهذه الآيات وعلمهم بتأويلها؛ إلا أنهم عبدوا الله تعالى رغبة ورهبة [وأمروا ونهوا، وحمدوا ربهم على الحسنة، ولاموا أنفسهم على الخطيئة، ولم يعذروا أنفسهم بالقدر -أي: لم يحتجوا بالقدر على المعصية- ولم يملكوها فعل الخير والشر -أي: ما قال واحد منهم: بيدي وبمشيئتي وإرادتي أن أفعل الخير والشر، وإنما رد ذلك كله إلى الله تعالى- فعظموا الله بقدره، ولم يعذروا أنفسهم به، وحمدوا الله على منه، ولم ينحلوه أنفسهم دونه، وقال الله تعالى: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:٨٥]، وقال: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:٥٩]]، فلما ذكر الخير بين الله تعالى أن هذا الخير نال المؤمنين بما كانوا قد أحسنوا في الدنيا، فبين أن إحسان العباد في الدنيا يستوجب على الله أن يكرمه، وأن الله تعالى هو الذي أوجب ذلك على نفسه، ولم يوجبه عليه أحد، ومن أساء في الدنيا فإن الله تعالى يعاقبه في الآخرة بما كان عنده من فسق.

[فكما كان الخير منه، وقد نحلهم عمله -أي: قد وهبهم ومن عليهم أن يعملوه- فكذلك كان الشر منه، وقد مضى به قدره سبحانه وتعالى.

وإن الذين أمرتك باتباعهم في القدر لأهل التنزيل].

أي: أنه يقول له: أنا آمرك أن تتبع أهل العلم من أهل السنة والجماعة في فهمهم لباب القدر، لا أن تكون تابعاً للقدرية.

قال: [الذين تلوه حق تلاوته -أي: الذين قرءوا القرآن كما أراد الله عز وجل -فعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه]، ولم يخوضوا فيه، ولم يصرفوه عن ظاهره، ولم يقولوا فيه: لم؟ وكيف؟ وإنما آمنوا به وأمروه كما جاء، [وكانوا بذلك من أهل العلم في الراسخين].

يعني: مع إيمانهم بالمتشابه، وإمرارهم له، وعدم الخوض فيه؛ كانوا من الراسخين في العلم.

قال: [ثم ورثوا علم ما علموا من القدر وغيره من بعدهم -يعني: هكذا علم السلف بعضهم بعضاً، فالصحابة علموا التابعين، والتابعون علموا تابعي التابعين وهكذا- فما أعلم أمراً شك فيه أحد من العالمين أعلى ولا أفشى ولا أكثر ولا أظهر من الإقرار بالقدر، لقد آمن به الأعرابي الجافي، والقروي القاري، والنساء في ستورهن، والغلمان في حداثتهم، ومن بين ذلك من قوي المسلمين وضعيفهم، فما سمعه سامع قط فأنكره، ولا عرض لمتكلم قط إلا ذكره، لقد بسط الله عليه المعرفة، وجمع عليه الكلمة، وجعل على كلام من جحده النكرة -أي: النكارة- فما من أحد جحده ولا أنكره فيمن آمن به وعرفه من الناس إلا كأكلة رأس.

فالله الله، فلو كان القدر ضلالة ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كانت بدعة ما علم المسلمون متى كانت، فقد علم المسلمون متى أحدثت المحدثات والبدع والمضلات.

وإن أصل القدر لثابت في كتاب الله تعالى، يعزي به المسلمون بعضهم بعضاً في مصائبهم بما سبق منها في الكتاب عليهم، يريد بذلك تسليتهم -الله تعالى يسلي عباده الموحدين-، ويثبت به على الغيب يقينهم، فسلموا لأمره وآمنوا بقدره، وقد علموا أنهم مبتلون، وأنهم مملوكون غير مملكين ولا موكلين، قلوبهم بيد ربهم، لا يأخذون إلا ما أعطى، ولا يدفعون عن أنفسهم ما قضى، قد علموا أنهم إن وكلهم إلى أنفسهم ضاعوا، وإن عصمهم من شرها أطاعوا هم بذلك من نعمته عارفون، كما قال نبيه وعبده الصديق: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يوسف:٣٣]-فبين يوسف عليه السلام أن الذي يملك صرف الشر هو الله عز وجل- {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:٣٣]، وقال تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:٥٣]، فتبرأ إلى ربه من الحول والقوة، وباء مع ذلك على نفسه بالخطيئة، كانت لهم فيه أسوة، وكانوا له شيعة].