للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مناظرة عمر بن عبد العزيز لغيلان الدمشقي وإظهار غيلان للتوبة وما آل إليه أمره]

[وعن محمد بن عمرو الليثي: أن الزهري حدثه قال: دعا عمر بن عبد العزيز غيلان القدري الدمشقي -وهذا زعيم القدرية- فقال: يا غيلان! بلغنا أنك تقول في القدر -أي: لك قول سيء رديء في القدر- فقال: يا أمير المؤمنين! إنهم يكذبون علي].

أي: أنه جبن عن الاعتراف بعقيدته أمام أمير المؤمنين، ثم يتهم غيره الذي تكلم بالحق ونقل الصدق إلى أمير المؤمنين بأنه كاذب يفتري عليه.

[قال: يا أمير المؤمنين! يكذبون علي، فقال: يا غيلان! اقرأ علي يس، فقال: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس:١ - ٤]، حتى بلغ: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:٨ - ١٠]]، وهذه الآية هي الشاهد، أي: أن الله علم منهم الكفر فكتبه عليهم.

قال: [فقال غيلان: يا أمير المؤمنين! والله لكأني لم أقرأها قبل اليوم].

أرأيتم إلى النفاق؟! فهو يقول: لقد ذكرتني بالذي غاب عني، فأنا فعلاً كان عندي شك، لكن لما قرأت هذه الآية علمت أن الإيمان والكفر بيد الله عز وجل، وأن الخير والشر من عند الله، وأن الله علم ذلك في الأزل، وكتبه وقدره على العباد، ((وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ))، فعلمت أن إيمان هؤلاء بيد الله، ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً.

ثم قال: [أشهدك يا أمير المؤمنين! أني تائب إلى الله عز وجل مما كنت أقول في القدر].

أي: أنني قد تبت من شيء قلته واعتقدته! إذاً: هذا يرد به على قوله الأول: إنهم يكذبون علي يا أمير المؤمنين! فهو ابتداءً رد القول الذي قيل فيه بحق؛ رده بباطل وبافتراء وبهتان على الصادقين.

ثم نافق وبين أنه لأول مرة يسمع هذه الآيات، بينما هو قد سمعها وقرأها مراراً، ووقف عندها، وله فيها تأويل غير سائغ ولا معتبر، لكنه خشي السيف.

فقال: [إني تائب يا أمير المؤمنين! مما كنت قلته في القدر، فقال عمر: اللهم إن كان صادقاً فثبته -أي: فثبته على هذا الصدق واليقين- وإن كان كاذباً فاجعله آية للمؤمنين].

أي: عبرة وعلامة.

قال: [فقال ابن عون: أنا رأيته مصلوباً على باب دمشق].

وهذه آية، فقد أصابته دعوة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز.

قال: [قال عمرو بن المهاجر: بلغ عمر بن عبد العزيز أن غيلان يقول في القدر، فبعث إليه فحجبه أياماً -أي: حبسه عنده أياماً- ثم أدخله عليه، فقال: يا غيلان! ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال عمرو بن مهاجر: فأشرت إليه ألا يقول شيئاً، قال: فقال: نعم يا أمير المؤمنين! إن الله عز وجل قال: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:١ - ٣]].

وهذا هو الشاهد: ((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ))، فهو إما أن يختار الشكر، وإما أن يختار الكفر، وإما أن يختار الإيمان أو الكفر، فهذه مشيئتي، فأنا حر أختار الكفر فلا علاقة لله بي، أو أختار الإيمان فلا علاقة لله بي، ما على الله إلا أن يهديني السبيل، وأنا بعد ذلك أقبله أو أرده، هذا من عندي بغير إرادة الله وبغير مشيئة الله، هكذا فهم غيلان الدمشقي.

[فقال له: اقرأ آخر السورة].

ونحن قد قلنا في الدرس الماضي: إن أهل البدع دائماً يحتجون بأول الآية ويتركون آخرها أو العكس، ولا يحتجون بآية كاملة.

فقال عمر بن عبد العزيز: إذا كان الذي بدا لك من هذه الآية هو ما قلت فاقرأ آخر السورة، وآخر السورة {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:٣٠ - ٣١].

إذاً: فمشيئة العبد تابعة لمشيئة الله عز وجل، والأصل في ذلك هي مشيئة الله تعالى، وأن العبد لا يشاء شيئاً إلا وقد شاءه وقدره وأراده الله عز وجل.

قال: [ثم قال: ما تقول يا غيلان! قال: قد كنت أعمى فبصرتني -وهو خائف من القتل- وأصم فأسمعتني، وضالا