للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الجمع بين الآثار الواردة عن السلف في مناظرة أهل البدع والآثار المحذرة من ذلك]

السؤال

قلتم: إنه لابد من عدم مجالسة ومخاطبة المبتدعة، فما حكم المناظرات كمناظرة الشيخ أحمد في ذلك؟

الجواب

يا أخي الكريم لو أنك أدركت معنا شيئاً من مقدمة الكتاب في حكم التعامل مع أهل البدع لوجدت أن سلف الأمة أحياناً ينهون عن مجالسة أهل البدع، وأحياناً يجالسون أهل البدع ويناظرونهم، وفي الوقت نفسه يحذرون منهم، فهم لهم مواقف عدة مع أهل البدع، أحياناً يذهب الرجل إلى موطن أهل البدع فيناظرهم، كما فعل ابن عباس عندما ذهب إلى الخوارج ورجع بألفين منهم وقيل: أربعة آلاف، أيضاً عمر بن عبد العزيز ناظر أهل البدع وخاصمهم وألزمهم الحجة، والإمام الشافعي خاصم بشر المريسي وناظره وأقام عليه الحجة، والإمام الدارمي ناظر أهل البدع وصنف كتاباً في الرد على الجهمية، وغير ذلك من مواقف السلف الكثيرة جداً.

وأحياناً نجد أن ابن سيرين لا يرضى قط بسماع أهل البدع فضلاً أن يناظرهم؛ لأن ابن سيرين يعلم أن هذا ليس فرض عين عليه؛ لكثرة العلماء في زمانه، وأن الحق ظاهر دائماً، فلا يلزمه حينئذ، والأمر على الكفاية، أي: دحض حجج أهل البدع، فإذا قام به فلان وفلان وفلان فهل يلزم بقية أهل العلم؟ لا يلزمهم، وأحياناً هذه النصوص التي ترد بالنهي عن مجالسة أهل البدع محمولة على هذا المعنى؛ وذلك أن كبار أهل العلم في الزمان الفلاني والمكان الفلاني قد قاموا بهذا الواجب فلا يلزمني أن أقوم به، إذ لا يلزم الناس جميعاً أن يردوا على صاحب البدعة، فإذا ظهر هذا على لسان عالم واحد فقط كفى، وإذا لم يظهر إلا بثلاثة أو أربعة وجب على الناس أن يتكلموا في ذلك حتى يظهر الحق ويخمد الباطل.

وهذه الكلمات التي قد أتتنا تنهى عن مجالسة أهل البدع إنما هي من باب أن الرد عليهم فرض كفاية، وقد قام وسقط الحرج عن الأمة، فلا ينبغي بعد ظهور الحق وبيان الباطل أن يتصدى الناس لسماع الباطل، وهذا وجه.

الوجه الثاني: أن نهيهم لنا عن مجالسة أهل البدع والتصدي لهم إنما هو نهي للعامة دون الخاصة، ولذلك الآن جماعة التكفير أكثر جماعة تطلب المناظرة، وأكثر جماعة كانت أهل مجادلة ومخاصمة ومماحلة في الباطل؛ لأنهم يناقشون بلا دليل، بلا عقل، بلا أدب، وقد أخذوا حقهم من المناظرة وبيان الحجة ما لو كان في عالم الكلاب أو الحمير لسلمت الكلاب والحمير بأن المخاصم معه الحق، وهم إلى الآن لم يقولوا بأن أهل السنة على الحق إلا من تاب منهم ولنا منه الظاهر، فمثلاً في ناظرهم الإمام أحمد بن حنبل يقولون: نحن نقول كما قال الله: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:٦]، ونحن نقول: إن القرآن هذا كلام الله فقط، ولم يأت في القرآن أنه مخلوق ولا غير مخلوق، فنحن نتوقف عند الحد الذي توقف عنده القرآن الكريم، وهذا كلام ظاهره جميل، لكن الإمام أحمد بن حنبل يفهم مغزى هذا الكلام، إذ إنه يؤدي إلى التجهم، وما كان لينطلي عليه هذا، لكن هذا ينطلي على العامة؛ لأن صاحب البدعة دائماً يزين كلامه وينمقه ويحسنه ويجمله؛ لأنه يعلم أن بضاعته أو أن وجهه القبيح لا يدخل على العامة إلا بهذا التزييف وهذا التجميل والتحسين.

أما أهل العلم فهم يعلمون الخطر بمجرد أن يسمعوا الخبر، فلا يتوقفون في إثبات أن هذا من أمور البدع والمحدثات، فيسأل العامة أهل العلم فيقولون: كيف هو من البدع؟ إنكم تسيئون الظن بأهل العلم، وغير ذلك من الكلام الفارغ، كما لو أن رجلاً من الناس كبير جداً ويشغر منصباً عظيماً ويتكلم بلباقة، فإنه لا ينطلي على أهل العلم.

وأضرب لذلك مثالاً: رجل في هذا الزمان رحمه الله مات منذ عدة سنوات، كان بليغاً حصيفاً له في تفسير وشرح كلام الله عز وجل باع طويل، لكن لا علاقة له بالحديث ألبتة، فلو أتيت له بكلام من كتاب شرشر وصدرته: بقال رسول الله، وعقبته: بصدق رسول الله، وألقيت إليه الورقة، لذهب في التلفزيون وعلى حلقتين أو ثلاث يشرح هذا الكلام على أنه من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا سألك العامة عنه، ماذا تقول في فلان؟ إذا قلت: هو في الحديث حاطب ليل، سينظرون إليك على أنك عدو لأهل العلم، وإذا قلت: إنه صوفي درويش يسرج المساجد التي فيها القبور، أو لا علاقة له بالحديث، أو لا علاقة له بالفقه، أو شيء من هذا، قامت عليك الدنيا ولم تقعد؛ لأن حبهم لهذا الشيخ أعماهم عن ذكر مثالبه، فهم لا يحبون أن يسمعوا كلمة واحدة تسيء إليه، وهي في الحقيقة لا تسيء، وإنما هي شهادة: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:١٩]، فأنت تسألني، وأنا شهدت بما أعلم، فيقول لك: أبداً، هذا رجل من كبار أهل العلم في الحديث والفقه والبيان والتفسير والأصول، وهو ليس له علم إلا في مجال واحد.

إذاً: السلف رضي الله عنهم لما نهونا عن مجالسة أهل البدع حفاظاً علينا ألا نقع في حبائلهم وشراكهم؛ وتعرضوا لهم لأنهم أهل لذلك، فهم أه