للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قول ابن مسعود (الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة)]

[وقال عبد الله: الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة].

وهذا كلام لا يقوله إلا إنسان قد عايش الوحي، ولهذا الكلام عدة معانٍ، يشهد لذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (خير العمل أدومه وإن قل)، والصحابة رضوان عليهم لا يتكلمون بكلام إلا ولكلامهم أصل في كتاب الله أو في سنة نبيه عليه الصلاة والسلام، فقول ابن مسعود قد قاله غير واحد، ولكنه أول من قال هذا، قال: (الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة)، يعني: تداوم على العمل القليل الخيري المستقيم الصالح وإن كان قليلاً، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحقرن أحدكم من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق)، فهذا في مقدور كل إنسان أن يفعله، ومع هذا لا يفعله كثير من الناس، وأبناء الصحوة لا يفعلون هذا، بل كثير منهم يجيد العلو ووسائله، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام أولى بذلك لو كان عملاً صالحاً، لكنه كان يتهلل فرحاً لأصحابه ويستبشر لقدوم غائبهم، وغير ذلك من أخلاقه العالية عليه الصلاة والسلام.

يذكر أن أعرابياً كان يأتي من البادية ومعه طعام، فيهديه للنبي عليه الصلاة والسلام، وكان إذا دخل على النبي عليه الصلاة والسلام يستقبله بالبشر والترحاب، وذات يوم أتى هذا الأعرابي بغير ما كان يتزود به في كل مرة، فاستحيا أن ينزل على النبي عليه الصلاة والسلام؛ فنزل في سوق المدينة، وكان النبي عليه الصلاة والسلام في السوق، فعرف الرجل، فأتى من خلف ظهره ووضع يديه على عينيه، وقال: (من يشتري العبد؟) وهو ليس عبداً، بل هو حر، فعرف هذا الأعرابي صوت النبي عليه السلام، قال: (يا رسول الله! إذاً: يجدني كاسداً) أي: لن يربح من ورائي شيئاً قال: (لا والله بل رابحاً) فبكى هذا الأعرابي فرحاً بلقاء النبي عليه الصلاة والسلام، وبممازحته له عليه الصلاة والسلام، وأنتم تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يضاحك النساء والرجال على السواء، وهو من هو في منزلته، وهذا في حقنا يجوز مع من تكون محرماً له، أما من لم تكن كذلك فلا يحل لأحد مخافة الوقوع في الفتنة إلا للنبي عليه الصلاة والسلام.

قال: الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة، أي: أن تكون تابعاً لغيرك في لزوم سنة، خير لك من أن تكون رأساً في البدعة.

هذا التفسير الثاني، الأول: ألا تحقر من المعروف شيئاً، وأن تداوم على العمل الصحيح الصالح وإن قل، والتفسير الثاني: لأن تكون تابعاً في الحق خير لك من تكون رأساً في الباطل، فحين نرى إنساناً مغموراً على التزام السنة خير من أن يتشبه بـ واصل بن عطاء وهو رأس الاعتزال، وأنتم تعلمون أن الخميني رأس في البدعة، فهل تريد أن تكون في منزلة الخميني رأساً في الشيعة، أم تريد أن تكون إنساناً مغلوباً مقهوراً وقد رزقت الحفاظ على السنة والعمل بالسنة، وإن لم يسمع بك أحد؟ أتريد أن تكون رأساً في البدعة أو أن تكون تابعاً في الحق؟ بلا شك أن تكون تابعاً في الحق.

وهكذا كان السلف رضي الله عنهم، كانوا يلتزمون بالسنة في كل حياتهم، حتى قال ابن المبارك إن استطعت ألا تحك قفاك إلا بأثر فافعل، فتصور أن السنة أقيمت إلى هذا الحد، ألا يتحرك أحدنا بحركة ولا يقرأ القرآن، ولا يفعل شيئاً إلا ومعه دليل من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، فالعلة من الاتباع هو العصمة، أن يعصم الإنسان نفسه من الزلل، ويعصم نفسه من الزيغ والانحراف؛ لأن كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة رضي الله عنهم ليس فيه زيغ ولا انحراف، بل قد أتى بالحكمة من جميع الجوانب، فمن تمسك به فهو عن الزلل والانحراف أبعد، وإذا انحرف الإنسان عن كتاب الله وسنة رسوله وهدي السلف رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فإنه سريع إلى الوقوع في الانحراف والابتعاد عن الخير.