للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفرق بين طلب المحق للعلم وطلب المبطل والمبتدع له]

[وقال إسماعيل بن عبيد الله: لا تجالس ذا بدعة -أي: صاحب بدعة- فيمرض قلبك، ولا تجالس مفتوناً فإنه ملقن حجته].

ولذلك فإن الطلاب الذين يطلبون العلم الشرعي لا يطلبون مسألة أو مسألتين أو ثلاثاً، وإنما يطلبون علماً أوله كتاب الله، وآخره آخر حديث حسن لغيره قاله النبي عليه الصلاة والسلام، فدين الإسلام طويل عريض، تكلم به المولى عز وجل، وتكلم به النبي عليه الصلاة والسلام على مدار ٢٣ سنة، فأنت مطلوب منك أن تدرس هذا، وليست المسألة متعلقة بقضية من القضايا، أو مذهب من المذاهب، فالرجل الذي يطلب العلم ينبغي عليه أن يطلبه بصورة عامة شاملة كلية؛ لأنه دين لا يتجزأ.

وأما من ابتدع -تبعاً لهواه- قضية من قضايا الشرع كقضية الجهاد مثلاً، أو قضية التأهيل، أو قضية الإيمان، أو غير ذلك فإنه يدرسها دراسة جيدة محكمة، فيعرف الشبهات التي ترفع إليه، ويحسن الجواب للرد عليها، فالذي يذهب ليناقش أمثال هؤلاء لابد أن يعلم أولاً من أين مخرجهم ومدخلهم وممشاهم، وما هي السبل التي يهتدون عليها، وما هي الشبهات التي يدسونها، وما هي ردود الأفعال لهؤلاء، لابد أن يلاحظ هذا كله حتى يستطيع الرد عليهم، ويظهر عوار هذه الفرقة، فإذا كان طالباً للعلم فله أن يتصدر، وأن يجادل ويخاصم؛ إظهاراً لدين الله عز وجل بإخلاص.

وأما الإنسان المفتون المغرور، الذي ليس عنده من العلم شيء، ولكنه يزعم أنه في كل واد من أهل العلم، ففي اليوم الفلاني يذهب ليجادل فلاناً، وفي اليوم الثاني يذهب ليخاصم فلاناً؛ فلا شك أنه يكون دائماً خاسراً خاطئاً غير ناصر لدين الله عز وجل ولا لشرعه، بل ربما كان هو أعظم سبب للفتنة في هذا المفتون، لأن عدم رده على هذا المفتون أو الزائغ يعطي انطباعاً أن هذا الزيغ حق، وأن هذا الضلال حق، فيتمثل به صاحب الضلال؛ زعماً أو ظناً منه أنه على الحق، وإذا كانوا على الباطل فما الذي يمنع هذا أن يرد عليهم، وأن يبين أنهم على الباطل.

فلما لم يبين وقع المفتون، بل جعله يتمسك أشد التمسك بفتنته وضلاله، وربما يكون الإنسان في أول الأمر يعلم أن هذا ضلال، لكن مع استمراره على الضلال قد يصدق نفسه.

وهذه تعتبر سنة كونية في الخلق، كالأحزاب التي تدور على الساحة، فإنها لا يخفى على المسئولين أنها فرقعات مفتعلة، وهم الذين فرقعوها وافتعلوها، لكن مع تقادم الأحداث والقيل والقال والأخذ والرد؛ تجد الرجل الآن يتفاعل ويتعامل مع الأحداث من واقع أنها أحداث حقيقية أحدثها وأوجدها أصحاب الافتراق أو غير ذلك، وإنما أحدثها الغير، فتعاملت مع الغير إما بأنه عدو أو خصم، فهكذا ربما يكون المبتدع أو الضال، فإنه يعلم في أول الأمر أن هذا هو الضلال، لأن هذا الباب شهرة، ويريد أن يشهر ولو بالشر، فمع بقائه في الشر مدة من الزمان يصدق أنه على الحق؛ لأنه قد ألف هذا الطريق هذا الضلال حتى كان يسيراً على قلبه؛ لأن الحق دائماً ثقيل على القلوب.

قال: [لا تجالس مفتوناً فإنه ملقن بالحجة]، أي: أن أصحاب البدع يحبون المناظرات لأجل أن يبدءوا بالمناظرة، فإذا فرغ صاحب البدعة من إلقاء ما عنده، وبيان أنه على الحق، ويزور في كلامه حتى يستقر أو يدخل في قلوب المستمعين، ثم بعد ذلك لا يسمح للخصم بالكلام، بل يستعرض الملل، وفي الغالب أنه ينصرف قبل أن يتكلم صاحب الحق، فلا يجد صاحب الحق من يناظره أو يخاطبه أو يجادله، فينصرف هو كذلك، فيكون صاحب البدعة هو الذي يتكلم، وأما صاحب الحق فإنه يرجع بذيول الخيبة والخسارة، والخسارة إنما تكمن في تأثر هذا الجمع باستماع كلام ذلك المبتدع أو الضال.