للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تعليق الإمام ابن بطة على ما تقدم من ذم المراء والخصومات في الدين]

قال الشيخ: [فاعلم يا أخي! أني لم أر الجدال والمناقضة والخلاف والمماحلة، والأهواء المختلفة والآراء المخترعة من شرائع النبلاء، ولا من أخلاق العقلاء، ولا من مذاهب أهل المروءة، ولا مما حكي لنا عن صالحي هذه الأمة، ولا من سير السلف، ولا من شيمة المرضيين من الخلف، وإنما هو لهو يتعلم، ودراية يتفكه بها، ولذة يستراح إليها، ومهارشة العقول، وتذريب اللسان بمحق الأديان، واستمتاع بظهور حجة المخاصم، وقصد إلى قهر المناظر، والمغالطة في القياس، وبهت في المقاولة، وتكذيب الآثار، وتسفيه أحلام الأبرار، ومكابرة لنص التنزيل، وتهاون بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ونقض لعقدة الإجماع، وتشتيت الألفة، وتفريق لأهل الملة، وشكوك تدخل على الأمة، وتوغير للقلوب، وتوليد للشحناء في النفوس.

عصمنا الله وإياكم من ذلك، وأعاذنا من مجالسة أهل الأهواء].

كل هذه البلايا بسبب الجدال بالباطل.

[وقال ابن أبي الزناد: أدركنا أهل الفضل والفقه من خيار أولية الناس -يعني: من السلف- يعيبون أهل الجدل والتنقيب، والأخذ بالرأي أشد العيب، وينهوننا عن لقائهم ومجالستهم، وحذرونا مقاربتهم أشد التحذير، ويخبرونا أنهم على ضلال، وتحريف لتأويل كتاب الله، وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم، وما توفى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى كره المسائل وعابها، وعاب التنقيب عن الأمور وزجر عن ذلك، وحذره المسلمين في غير موضع، حتى كان من قوله عليه الصلاة والسلام في كراهية ذلك أن قال: (ذورني ما تركتكم)] يعني: إذا أخفيت شيئاً عنكم، أو لم أتكلم في اتباعه؛ فلا يجادلني ويخاصمني فيه أحد منكم.

قال: [(ذروني ما تركتكم، فإنما هلك الذين من قبلكم بسؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم)] يعني: لابد أن تعلم أن الجدال مهلكة، وأن الخصومة مهلكة.

قال: [(فإنما هلك الذين من قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم -يقصد بني إسرائيل- فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) اجتنبوه كله؛ لأن النهي داخل في مقدور كل إنسان.

قال: [(وإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم)].

وأنتم تعلمون ذلك الرجل الذي قام وقال: (يا رسول الله! الحج كل عام؟ فسكت، فقام فسأل: الحج كل عام؟ فسكت، فقام فسأل: الحج كل عام؟ قال: لو قلت: نعم لوجبت -أي: لو قلت: الحج كل عام لكان واجباً على كل مسلم أن يحج في كل عام- ولما استطعتم).

[فأي: امرئ أكب على التنقيب لم يعقل من هذا، ولم يبلغ الناس يوم قيل لهم هذا القول من الكشف عن الأمور جزءاً من مائة جزء مما بلغوا اليوم، فهل هلك أهل الأهواء وخالفوا الحق إلا بأخذهم بالجدل، والتفكير في دينهم؟ فهم كل يوم على دين ضلالة وشبهة جديدة، لا يقيمون على دين، وإن أعجبهم إلا نقلهم الجدل والتفكير إلى دين سواه، ولو لزموا السنن وأمر المسلمين، وتركوا الجدل لقطعوا عنهم الشك، وأخذوا بالأثر الذي حضهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.