للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح أثر ابن الماجشون: (احذروا الجدل فإنه يقرب إلى كل موبقة)]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فلا زال الكلام موصولاً عن ذم الجدال والمراء والخصومات في الدين، والحث على التمسك بآثار الصالحين.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو صالح -وهو كاتب الليث بن سعد -: أملى علي عبد العزيز بن الماجشون قال: احذروا الجدل؛ فإنه يقربكم إلى كل موبقة -الموبقات: المهلكات- ولا يسلمكم إلى ثقة].

أي: ليس له أجل ينتهي إليه، فمن دخل في طريق الجدال والكلام والخصومات فإن له بداية، لكن ليست له نهاية.

قال: [وهو يدخل في كل شيء، فاتخذوا الكف عنه طريقاً إليه].

أي: أن الجدال والخصومات بغير حق يجب أن تكف عنها.

قال: [فإن الجدل والتعمق هو جور السبيل، وصراط الخطأ، فلا تحسبن التعمق في الدين رسخاً].

أي: لا تتصور أنه لا يكون المرء راسخاً في العلم، أو ليس عالماً إلا بكثرة الجدال والمناقشة والخصومة والمراء وغير ذلك، بل هذا هو الجهل بعينه.

قال: [فإن الراسخين في العلم هم الذين وقفوا حيث تناهى علمهم].

أي: يقفون عند حد العلم الذي علمهم الله تعالى إياه، وأما ما دون ذلك فإنهم يؤمنون به على الظاهر، ويلقونه كما جاء ولا يخرجون عنه.

قال: [واحذرهم -أي: أهل الكلام- أن يجادلوك بتأويل القرآن، واختلاف الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجادلهم فتزل كما زلوا، وتضل كما ضلوا، فقد كفتك السيرة -أي: سيرة السلف الصالح رضي الله عنهم- مؤنتها، وأقامت لك منها ما لم تكن لتعدله برأيك].

أي: أن سيرة السلف رضي الله عنهم فيما يتعلق بالجدل والمناظرة وقيام الحجة على الخصم كفيلة أن تقف عندها ولا تتعداها؛ لأنهم خاضوا لما كان الخوض جائزاً، ووقفوا لما كان الخوض ممنوعاً، وإذا نت حقاً متبعاً لآثار من سلف، تاركاً لابتداع من خلف؛ فالسيرة الذاتية والعلمية لكل واحد من أئمة السلف قاضية بذلك.

قال: [ولا تتكلفن صفة الدين لمن يطعن في الدين، ولا تمكنهم من نفسك].

فبعض الناس قد يتصور أنه قد أوجب الله تعالى في حقك أن تبين له صفة الدين، مع أنه ليس في حاجة لذلك؛ لأنهم يعرفون الدين بسمته وصفاته ومميزاته وغير ذلك.

لكنهم يريدون الجدال والمماحلة والخصومة؛ لأنهم وإن عرفوا أو علموا دين الله عز وجل، إلا أن هذه المعرفة لم تستقر في قلوبهم؛ ولذلك هم يريدون أن يظهروا ما عندهم من علم بالتأويل، وتحريف الكلم عن مواضعه.

فهذا يدل على أنهم أرباب ضلال، وهل تتصورون أن إبليس اللعين لم يكن يعرف قدر الله تبارك وتعالى؟ إنه يعرفه جيداً، ويعرف أنه المعبود الأوحد، ولا معبود بحق سواه، لكنه عصى وفرط وبغى، وقاس قياساً فاسداً أوقعه وأورده المهالك، فهذا لا يدل على أنه لم يعرف الحق من الباطل، بل هو يعلمه تماماً وجيداً، لكنه زاغ وضل وانحرف عن الصراط، بل كان إبليس من أكثر العباد عبادة قبل أن يعصي، فهل تتصورون أن إبليس كان يعبد معبوداً أو إلهاً لا يعرفه ولا يعرف قدره؟!

الجواب

كلا، فقد كان يعرفه جيداً.

وهكذا أهل الكلام؛ لأن إمامهم وسلطانهم هو إبليس، ومنه أخذوا، وعلى يديه تربوا، وأشربوا منهجه في الجدال والمخاصمة والمماحلة، فهم لا يريدون أن يصلوا إلى الحق ليعملوا به، أو ليتعبدوا به، وإنما يريدون أن يجادلوا لأجل الجدال فقط، أو للتشهي، أو للنصرة على الخصم، أو لكثرة الأتباع أو غير ذلك.

وعلى أية حال سمات أهل الحق كما أنها واحدة إلى قيام الساعة، فكذلك سمات أهل البدع والضلال واحدة إلى قيام الساعة.

قال: [ولا تتكلفن صفة الدين].

أي: لا تكلف نفسك أن تظهر الدين.

[لمن يطعن في الدين، ولا تمكنهم من نفسك]، أي: إذا أرادوا الظلم، وعرضوا عليك المجادلة والمناظرة، فلا تمكنهم من نفسك، فإذا جاءك عاص أو ضال مبتدع أو غيره وطلب المناظرة فهذا لا يجوز محادثته أو مناظرته إلا بشروط: الشرط الأول: أن يغلب على الظن أنه يبتغي الحق.

الشرط الثاني: ألا يأتي للمناظرة، وإنما يأتي للتعلم.

الشرط الثالث: أن تكون من أهل العلم المشهود لهم بذلك، وممن تعَيَّن عليه التصدي لإظهار الحق، وقمع الباطل.

فهذه ثلاثة شروط، فإذا تخلف شرط منها اختلت المناظرة، ويحرم عليك أن تتصدى لأهل البدع؛ حتى لا تصاب بما أصيبوا، ولا تزل قدمك كما زلوا، ولا تضل كما ضلوا.