للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان أن صفات الله من المحكمات]

كثير من الناس يعتقد أن صفات الله عز وجل من المتشابهات؛ اغتراراً بقول كثير من السلف: نؤمن بها ونمرها كما جاءت دون خوض فيها بتأويل أو تحريف أو تمثيل أو تكييف، فقالوا: هذا القول يشعر أن الصفات من المتشابهات، فمثلاً: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:١٠]، ذهب أهل التمثيل والتشبيه إلى أن لله يداً كيد المخلوقات؛ لأن الله تعالى ما خاطب العباد إلا بما يدخل في أفهامهم وتدركه عقولهم، فلما قال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:١٠] دل على أن له يداً، وهذه اليد مثلوها بيد الإنسان.

قلنا: هذا الكلام لا يستقيم لا من جهة النقل ولا من جهة العقل، والدليل على ذلك أن نقول: لم جعلنا يد الله تعالى كيد الإنسان خاصة؟ لم لا تكون كيد الحيوان أو الطير أو الحشرات؟ ولو سلمنا أنها كيد إنسان فهل يد كل إنسان كيد أخيه الإنسان؟

الجواب

لا، بل أحياناً تجد في يد الإنسان الواحد قصوراً في يد وطولاً في الأخرى، وضموراً في يد وسمنة في الأخرى وغير ذلك، فإذا كانت اليد في الشخص الواحد أحياناً تختلف، فكيف نقول بأن يد الله تعالى كالإنسان؟ فأي إنسان هذا الذي تشبه يده يد الله عز وجل؟! لابد أن نتوقف في الجواب.

الأمر الثاني: أننا لا نستطيع تكييف الذات العلية لله عز وجل، ونعجز عن وصفها؛ لأنها لم تر لنا، وليس لها مثيل نقيس عليه، ولو أني قلت: هل رأى أحد منكم إبراهيم؟ تقولون: لا، أقول: إن إبراهيم يشبه محمداً في العين أو الفم أو الأنف أو الوجه أو اليد أو الساق أو غير ذلك، فإذا قلت: إن إبراهيم شبيه محمد فقد فهم المخاطب أوصاف محمد وأوصاف إبراهيم، ومحمد معلوم لدينا، لكن الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١].

فلما لم يكن له مثيل من خلقه ولا شبيه من خلقه ولا كفؤ من خلقه، فلا يمكن معرفة الله تعالى عن طريق القياس، ولا رأينا الله تعالى في الواقع، وإنما يراه المؤمنون في الآخرة، كما أنه كذلك لا يمكن قياس الذات العلية على ذوات المخلوقين فإذا عجزنا عن كيفية الذات، لابد كذلك أن نعجز عن كيفية الصفات؛ لأن الصفات لازمة للذات.

والفريق الآخر المقابل للممثلة والمشبهة والمكيفة هم النفاة الذين قالوا في قوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:١٠]: لا يصح أن يكون لله يد، وفي مقدمتهم الجهمية، قالوا: لأن إثبات اليد لله تعالى تستلزم المشابهة، والله تعالى منزه عن ذلك، فلابد من تحريف الكلم عن مواضعه، ولابد من تأويل اليد هنا، فأولوها بالقوة، فلما أرادوا تنزيه الله عز وجل وقعوا في شر مما هربوا منه، وهو التعطيل.

لكن أهل السنة والجماعة اعتبروا أن الصفات من المحكمات؛ لأننا نثبت لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله، وننفي عن الله ما نفاه عن نفسه وما نفاه عنه رسوله عليه الصلاة والسلام، على المعنى اللائق بالله عز وجل.

فالله تعالى أخبر أن له يداً وأخبر أن له قوة، فلا يستقيم قط أن أقول: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:١٠] أي: قوة الله فوق قوتهم؛ لأنني لو قلت ذلك وأولت وحرفت النص عن ظاهره، للزمني تعطيل صفة اليد، بل أنا أثبت اليد على المعنى اللائق بالله عز وجل، وأثبت القوة كذلك على المعنى اللائق بالله عز وجل؛ لأنها من صفات أفعاله، والله تعالى واحد في أفعاله، كما أنه واحد في ذاته، وواحد في أسمائه، واحد في صفاته، فإذا أثبتُّ أن له قوة أثبت القوة التي لا علاقة لها باليد التي هي من صفات الذات لله عز وجل، أما القوة فمن صفات الفعل لله عز وجل، وقوة الله تعالى لا تدانيها قوة ولا تضاهيها قوة، فأثبت اليد على المعنى اللائق بالله، وأثبت القوة على المعنى اللائق بالله عز وجل، ولم يخض أهل السنة والجماعة في معرفة كنه الصفة أو تكييف الصفة، وفوضوا كيفيتها إلى الله عز وجل؛ لأنه هو الذي يعلم ذاته ويعلم صفاته على الحقيقة.

أما البشر فالواجب عليهم أن يؤمنوا بأن الله تعالى سمى نفسه بأسماء ووصف نفسه بأوصاف، وكذلك فعل رسوله عليه الصلاة والسلام، فيجب عليهم أن يؤمنوا بها ويمروها كما جاءت، يفوضون كيفيتها إلى الله عز وجل، أما علمها وحقيقتها فإننا نؤمن إيماناً جازماً أن الله تعالى له أسماء وله صفات.

فتبين بعد هذا العرض السريع أن صفات الله عز وجل من المحكمات وليست من المتشابهات، وهذه جزئية لو لم نخرج هذه الليلة إلا بها لكفى؛ لأن كثيراً من طلاب العلم -بل أهل العلم الذين يصنفون كتبهم- يزعمون أن الصفات من الآيات المشتبهات، وليس الأمر كذلك.

أما قول من قال: إن الصفات من المحكمات، فهو قول المحققين والمدققين من أهل العلم من المحدثين وغيرهم.