للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التصور العقلي للواقع إذا لم يكن العمل من الإيمان]

إن الذين يقولون: العمل لا علاقة له بالإيمان، إذا كان هذا الكلام هو الحق، فهل يتصور غياب ذلك عن الصحابة؟

الجواب

لا يتصور، فإذا كان هذا هو الحق -وعياذاً بالله أن يكون حقاً، أو قريباً من الحق، بل هو عين الباطل- فلنا أن نتصور أن النبي عليه الصلاة والسلام لما علَّم أصحابه الإيمان كما قال جرير بن عبد الله البجلي وعبد الله بن عمر: كنا نتعلم الإيمان أولاً، فإذا نزل القرآن استزدنا به إيماناً، وكان الواحد منا يقرأ العشر الآيات فلا يتجاوزها حتى يتعلم ما فيها من إيمان وزواجر وأوامر ونواهٍ؛ فيزداد بذلك إيماناً.

لنا أن نتصور أن النبي عليه الصلاة والسلام خطب هؤلاء الأصحاب الذين يقولون إن العمل ليس من الإيمان: هيا بنا نجاهد المشركين يا إخواننا! قالوا: اذهب لوحدك، لن نأتي معك، فسيقول لهم: لماذا؟ أليس الجهاد هذا عملاً؟ فيقولون: نعم.

هو كذلك، والعمل ليس من الإيمان.

وإن قيل لهم: أنتم مأمورون بالصيام.

لا يقبلون، بل يقولون: لأن الصيام عمل، والعمل ليس من الإيمان.

كذلك نفعل الخير نأمر بالمعروف ننهى عن المنكر ندعو إلى الله؛ كل هذه أعمال، فلو أن الصحابة رضي الله عنهم امتنعوا عن هذا هل يكون ديناً؟

الجواب

لا، بل لك أن تختار شيئاً أعظم من ذلك، وهو: إذا كان العمل ليس من الدين هل هذا يخفى على صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: لا يخفى عليه، وإذا لم يكن العمل من الإيمان فلم أمر به النبي عليه الصلاة والسلام، بل لم أمر به اللطيف الخبير في كتابه؟ فلا بد أن نوقن أن العمل من الإيمان، وأن المفرط فيه ينظر إلى أصل العمل، فإذا قام النص على أنه من أصل الإيمان كفر بتركه، وإذا قام النص أو الإجماع في كل عمل على أنه من واجبات الإيمان؛ كان المفرط في هذا العمل قد فرط في الإيمان الواجب، وإذا كان العمل مستحباً بالكتاب والسنة؛ فمن فرط فيه فقد فرط في كمال الإيمان والكمال المستحب، والله تعالى أعلم.

ولذلك استحق الصحابة رضي الله عنهم اسم الرشاد بإكمال الدين، وذلك أنهم كانوا في فسحة وسعة، ليس يجب عليهم صلاة ولا زكاة ولا صيام، ولا كان حرم عليهم كثير مما هو محرم، وكان اسم الإيمان واقعاً عليهم؛ لأن التكاليف نزلت في المدينة، وهم استحقوا اسم الإيمان لما كانوا في مكة وقبل أن تنزل معظم التكاليف، لكن الله تبارك وتعالى امتدحهم بكمال إيمانهم، وتمام انصياعهم بإيمانهم الذي آمنوا به في مكة، ثم استقبلوا التكاليف الشرعية أحسن استقبال؛ وكان اسم الإيمان واقعاً عليهم بالتصديق ترفقاً بهم؛ لقرب عهدهم بالجاهلية وجفائها، فجعل الإقرار بالألسن والمعرفة بالقلوب هي الإيمان المفترض يومئذ؛ لأنه لم يكن هناك تكليف بعد، حتى إذا حلت مذاقة الإيمان على ألسنتهم، وحسنت زينته في أعينهم، وتمكنت محبته من قلوبهم، وأشرقت أنوار لبسته عليهم، وحسن استبصارهم فيه، وعظمت فيه رغبتهم؛ تواترت أوامره فيهم، أي: نزلت أوامر الله تعالى بالحلال والحرام والتكليف والأحكام.

قال: [وتوكدت فرائضه عليهم، واشتدت زواجره ونواهيه، فكلما أحدث لهم فريضة -عبادة- أو زاجرة عن معصية؛ ازدادوا إليه مسارعة وله طاعة، دعاهم باسم الإيمان، وزادهم فيه بصيرة، فقال: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:٧٨]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:٦]، فخاطبهم بالإيمان، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:٩].

وكل الخطاب في الفرائض موجه لأهل الإيمان، فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:٢١٦]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} [التوبة:٣٨]، ونظائر هذا في القرآن كثيرة.

وقال في النهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران:١٣٠]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:٩٥]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:٩٠].

فعلى هذا كل مخاطبة كانت منه لهم سبحانه وتعالى فيما أمر ونهى، وأباح وحظر، وكان اسم الإيمان واقعاً بالإقرار الأول قبل هذا، إذا لم يكن هناك فرض غيره، فلما نزلت الشرائع بعد -أي: بعد هذا- وجب عليهم التزام فرضها، والمسارعة إليها كوجوب الأول سواء بسواء]، الله عز وجل سماهم