للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كلام شيخ الإسلام ابن تيمية حول الاستثناء في الإيمان]

فـ ابن تيمية في كتاب الإيمان في الجزء السابع من مجموع الفتاوى يقول: وأن الاستثناء في الإيمان بقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، فالناس فيه على ثلاثة أقوال: فمنهم من أوجبه حتى لا يزكي نفسه؛ لأنه لا يقول ذلك على جهة الشك، والذين أوجبوا الاستثناء قالوا: دفعاً للتزكية، وأنهم يقولونها لا على سبيل الشك بل على سبيل تفويض كمال الإيمان وتمامه لله عز وجل.

ومنهم من يحرمه، وهم المرجئة والجهمية، وذلك على أصلهم في تعريف الإيمان بأنه التصديق أو المعرفة، وأنه لا يتصور الاستثناء؛ لأن الاستثناء عندهم شك في أصل الإيمان، ومن شك في أصل الإيمان لا يتصور إلا إلى الكفر.

ومنهم من يجوز الأمرين باعتبارين، أي: باعتبار كمال الإيمان وتمامه لا بد أن يستثني، وباعتبار أصل الإيمان فلا يستثني.

قال: وهذا أصح الأقوال، أي: المذهب الذي يقول: إنه أحياناً يكون الجزم بالإيمان واجباً، وأحياناً يكون الاستثناء في الإيمان واجباً أو جائزاً.

والذين يحرمونه هم المرجئة والجهمية ونحوهم، ممن يجعل الإيمان شيئاً واحداً يعلمه الإنسان من نفسه، كالتصديق بالرب ونحو ذلك مما في قلبه.

فيقول أحدهم: أنا أعلم أني مؤمن كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين، وكما أعلم أني قرأت الفاتحة، وكما أعلم أني أحب الله ورسوله، وأني أبغض اليهود والنصارى، فقولي: أنا مؤمن كقولي: أنا مسلم، وكقولي: تكلمت بالشهادتين، وقرأت الفاتحة، وأنا أبغض اليهود والنصارى، ونحو ذلك من الأمور الحاضرة التي أنا أعلمها من نفسي يقيناً وأقطع بها، وكما أنه لا يجوز أن يقال: أنا قرأت الفاتحة إن شاء الله، لا يجوز: أنا مؤمن إن شاء الله، لكن إذا كان يشك في ذلك فيقول: فعلته إن شاء الله، قالوا: فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه، وسموهم الشاكة.

والذين أوجبوا الاستثناء لهم مأخذان، واعلم أن هناك بعض الناس من أهل البدع أوجبوا الاستثناء، لكن ذهبوا في الوجوب إلى علة أخرى غير التي عند أهل السنة والجماعة، أي: أن فريقاً من أهل البدع قالوا بأن الاستثناء في الإيمان واجب، وذلك لعلة تسمى الموافاة، وهي: أن يفي الرجل إلى الله عز وجل يوم القيامة بالأعمال، أي: العمل الذي يقدم به العبد على ربه.

كما قالوا كلاماً هو شراً من ذلك، فقالوا: الله عز وجل سبق في علمه أن فلاناً سيموت على الكفر، ولا خلاف عندنا أن الله تعالى يعلم ذلك من عبده، فهو مؤمن الآن يعمل الصالحات، لكنه يختم له بالكفر والردة، أي: أن عمله هذا كله لا قيمة له، وأنه لا يثاب عليه؛ لأنه قد سبق في علم الله أنه سيوافيه يوم القيامة مرتداً وكافراً.

وكذلك الصورة العكسية أن هذا العبد كافر عابد للأصنام والأوثان.

قال: فلا يزال الله تبارك وتعالى يحبه حتى وإن كان عابد وثن؛ لأن الله تعالى سبق في علمه أن هذا العبد سيموت على الإيمان أو سيوافيه بالإيمان.

ولذلك يقولون: لا بد من الاستثناء في الإيمان، وذلك لعلة الموافاة التي لا يعلمها العبد من نفسه، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أي: باعتبار قدومه على الله، هل يقدم عليه كافراً أو يقدم عليه مؤمناً؟ وعلة الموافاة هذه لم يقل بها إلا المبتدعة.

ولذلك يقولون: محبة الله تبارك وتعالى لعبده لا تتغير، وسخط الله تبارك وتعالى على عبده لا يتغير، فلا يزال الله تبارك وتعالى ساخطاً على عبد من عباده أبداً، عمل صالحاً أو سيئاً؛ لعلم الله تعالى أنه سيختم له بالكفر والردة.

كذلك فالله تعالى يرضى عن عبده وإن كان عابد وثن؛ لعلمه أن هذا العبد سيوافيه على الإيمان.

فهذه عند المبتدعة اسمها: علة الموافاة، ونحن قلنا: إن فريقاً من أهل السنة قالوا بوجوب الاستثناء في الإيمان، فهل لعلة الموافاة؟ لا، وإنما عدم تزكية، وأنهم لا يقولون ذلك على سبيل الشك، بل على سبيل إيكال حقيقة الإيمان لله عز وجل، أما الاستثناء في الإيمان فينبغي أن يكون في كمال الإيمان وتمامه وحقيقته، أما أصل الإيمان الذي هو محل الردة ومحل الكفر، فلا استثناء فيه.

وهذا الوجه الأول من الأوجه التي أوجب الله تبارك وتعالى لها الاستثناء، وهذا الوجه عند أهل البدع.

الوجه الثاني كذلك في الاستثناء في الإيمان: أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله تبارك وتعالى به وترك المحرمات، إذ إن الإيمان المطلق أو الإيمان الكامل متعلق بالعمل، والعمل عبارة عن أمر ونهي.