للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فهم العبد للنصوص شرط في قيام الحجة عليه]

وعلى أية حال أنا أريد أن أقول: إن موانع الكفر أربعة: الجهل، والخطأ، والتأويل أو الشبهة، والإكراه، فمن وقع في كفر عملاً أو قولاً، ثم أقيمت عليه الحجة، وبين له أن هذا كفر يخرج من الملة، فأصر على فعله طائعاً غير مكره، متعمداً غير مخطئ ولا متأول؛ فإنه يكفر بذلك، ولو كان الدافع إليه غرضاً دنيوياً؛ لأنه قد علم أن هذا العمل كفر، أو هذا القول كفر، وقد قاله مختاراً غير مكره، راضياً به غير محمول عليه، وغير مخطئ في الإتيان به، وغير متأول ولا شبهة له، بل قامت عليه الحجة وفهمها؛ لأن الحجة لا تقوم على العبد إلا بالفهم؛ لأن بعض الناس يتصور أن مجرد سرد النصوص حجة، وهذا خطأ، بل الحجة هي فهم هذا المحجوج لهذه النصوص، فأنا الآن أقول لك: هذا الذي تعمله حرام، بدليل أن الله قال كذا وكذا، والرسول قال كذا وكذا، ولكن هذا الشخص لا يفهم آية ولا حديثاً، فهل بمجرد سرد هذه النصوص والأدلة تكون الحجة قد قامت عليه؟

الجواب

لا، إذ إن الحجة لا تقوم على العبد إلا بعد أن يفهم هذه الحجة وهذا النص.

كذلك: لو قال الولد لأبيه: يا أبت تعليق هذه الصور حرام، ولابد أن تنزل صورتك أنت وأمي من على الجدار، وإلا فسوف أنزلها وأكسرها على رأسك أنت وهي! والرسول قال كيت وكيت، والأب سيقول: لم أفهم شيئاً، فهل تعتقد أنك بهذا السرد للأدلة قد أقمت الحجة؟ لا، بل لابد أن يفهم كلامك الذي نسميه (الحجة)، كلامك هذا نقلاً عن كتاب الله عز وجل وسنة النبي عليه الصلاة والسلام وأقوال العلماء وفهمهم لهذه النصوص، عندما تبلغ هذا كله لأبيك سرداً لا تقوم الحجة بذلك حتى يفهم.

فإن فهم وأصر على العمل، أو أصر على القول، فننظر إلى هذا العمل وإلى هذا القول، هل هو من الأقوال أو الأعمال المكفرة؟ إذا كان الأمر كذلك فيكفر به.

أنا أتكلم على قيام الحجة العامة والمعتبرة، وليس مجرد أن هذا بينك وبين أبيك وكفى؛ لأن قيام الحجة لها شروط وضوابط ليس هذا محلها؛ لكني أقول: لا يكفر المرء إلا بعد قيام الحجة الرسالية عليه -حتى ينتفي عنه مانع من موانع التكفير وهو الجهل- والحجة الرسالية: قال الله وقال الرسول وأجمع أهل العلم، وأن يفهم ما يتلى عليه شرحاً وبياناً وإيضاحاً؛ حتى لا يكون له يوم القيامة عذر بين يدي الله عز وجل، إلا إصراره على ما هو عليه من قول أو عمل، وإذا كان هذا العمل ليس من الأعمال المكفرة فينظر: هل هو من الأعمال التي يأثم بها في باب الواجبات أو المحرمات، أو أن هذا العمل في باب الكمال والاستحباب أو في المباحات، وأنه فوت على نفسه -وإن لم يأثم- فضلاً عظيماً وثواباً عميماً.

يحتاج إلى معرفة أن هذا صنم، وقد سجد رجل أمامي لصنم في أمريكا، وهذا الصنم على عمود من الأعمدة، والذي لا ينظر إلى قمة العمود يتصور أنه عمود قائم؛ لأن رأس الصنم فوق، فالذي لا ينظر إلى فوق لا يعلم أن هذا صنم.

إذاً: هذا الباب باب واسع، بل أوسع من باب الفقه، إذ إن باب الفقه عندما نتكلم فيه عن مسألة من مسائل الفقه؛ كل واحد منا يدور في ذهنه فرعية من الفرعيات.

بينما مسائل الإيمان والكفر أوسع من ذلك بكثير، وأنا قلت في أول المحاضرة: اعتبروا أن هذا أول درس في مسائل الإيمان والكفر، ويبقى معنا بعد ذلك دروس عديدة، فأرجو ألا يتسرع الإخوة بتوجيه الأسئلة، وربما يأتي الجواب عن سؤالك دون أن تسأل.

ونخلص مما ذكرناه إلى أن مجمل أقوال العلماء تنحصر في عبارات أو في كلمات وتعريفات: أن الكفر يكون بالقول أو الفعل كما يكون بالاعتقاد، ولذلك لم يقيده عامة السلف بالاعتقاد، وأن الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، وأن الكفر يكون بالقول أو الفعل وإن لم يعتقد، وهذا كفر المنافقين، أي: أن هذا هو النفاق لأول وهلة.

فلو أن رجلاً قد أتى بكلمة الإسلام وعمل في الظاهر بمقتضى هذه الكلمة، لكنه لم يعتقد صحة هذه الكلمة، فهل ينتفي تمام الإيمان بذلك؟

الجواب

لا؛ لأن العلماء هنا قد نصوا على عدم شرطية الاعتقاد؛ لأن المرء يكفر بمجرد العمل إذا كان متعلقاً بأصل الإيمان، وأن الكفر بالقول والعمل يثبت للمرء، ولو أنه قال ذلك أو عمل ذلك لغرض من أغراض الدنيا.

نكتفي بهذا القدر، وإن شاء الله تعالى لنا لقاءات كثيرة في مسائل الإيمان والكفر.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.