للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مراتب القدر]

أما قوله: (إذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني) فهذا يعني: أنهم كفار وليسوا بمسلمين ألبتة؛ لأنهم أنكروا المرتبة الأولى والعظمى من مراتب القدر، وهي: إثبات علم الله عز وجل لأفعال المخلوقين، فالله تبارك وتعالى علم ما الخلق عاملون، وما هم إليه صائرون قبل أن يخلقهم، فلما علم الله تعالى أن عباده سيفعلون الخير قدر لهم ذلك ويسره لهم، وعلم أن من عباده من سيختار طريق الشر ويعمل له، فقدر له الشر ويسر له طريق الشر، وفي المقابل جعل للفريق الأول الجنة وللثاني النار، فخلق الجنة وخلق النار، وجعل لكلٍ أهلاً وسكاناً، وقال: (يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت).

فالله تعالى علم ذلك في الأزل، فلما علم ذلك كتبه قبل أن يخلق السماوات والأرض، كتبه في اللوح المحفوظ فهو عنده تحت العرش، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة).

فهل يكتب الله تعالى ما لا يعلمه؟ وهل يخفى على الله تعالى شيء؟ إن الله تعالى يعلم السر وأخفى، فلما علم الله تعالى ذلك في الأزل قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كتبه كتابة لا تقبل المحو في اللوح المحفوظ، بخلاف الكتابة التي في أيدي الملائكة وفي أيدي الحفظة وفي أيدي الكتبة، فإنها تقبل المحو والإثبات، قال الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:٣٩].

فقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:٣٩]، أي: بأيدي الملائكة في هذه الكتب التي معهم، أما الكتاب الذي لا يقبل محواً ولا إثباتاً إلا ما أثبته الله تعالى فيه بقلم القدرة: (أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب كل شيء كان وسيكون إلى قيام الساعة، فجرى القلم بما أمر)، أي: كتب القلم ما أمره الله عز وجل، وهذا الكتاب الذي كتبه الله عز وجل بقلم القدرة عنده تحت العرش لا يقبل محواً ولا إثباتاً إلا ما فيه، وهو الذي يستقر عليه الأمر.

أما الكتب التي بأيدي الملائكة فإنها تقبل المحو والإثبات على حسب أعمالهم أو أعمال العباد، فهذه هي المرتبة الأولى من مراتب القدر.

المرتبة الثانية: مرتبة علم الله عز وجل، وأن الله تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد الذين لم يخلقهم بعد، فكيف بمن خلقهم سبحانه وتعالى، فهو العليم وهو البصير وهو الخبير، علم ما العباد عاملون قبل أن يخلق العباد فكتب ذلك، والعلم ثم الكتابة مرتبتان من مراتب القدر من أنكرهما كفر باتفاق.

المرتبة الثالثة: مرتبة الإرادة أو المشيئة على خلاف ونزاع بين العلماء فيما يتعلق بحقيقة المشيئة وحقيقة الإرادة، والإرادة إرادتان: إرادة شرعية دينية مبناها على المحبة والرضا، أمرك الله تعالى بالصلاة والصيام والزكاة والحج والتوحيد وغير ذلك من الأوامر، فإذا فعلت ذلك فأنت محبوب عند الله عز وجل؛ لأنك عملت بفضل الله وقدرته ما أمرك به شرعاً، فإذا فعلت ذلك وامتثلت الأمر واجتنبت النهي فإنك حينئذ تدخل في محبة الله عز وجل، فهذه هي الإرادة الشرعية الدينية التي مبناها على المحبة والرضا، من وفق لها فقد وفق للخير ودخل في مرضاة الله عز وجل.

الإرادة الثانية: إرادة كونية قدرية، لا أقول: مبناها على المحبة والرضا، فمنها ما يحبه الله، ومنها ما يغضب الله ويسخط على فاعله، لكن هل هذا الفاعل للشر يمكن أن يفعل الشر بغير إرادة الله؟ لا، إذ لا يمكن لأحد قط من المخلوقين أن يفعل فعلاً إلا وقد أذن الله به إما إذناً شرعياً دينياً -كما هو المرتبة الأولى من مراتب الإرادة- أو إذناً كونياً قدرياً، وكونياً أي: وقع في الكون، وقدرياً أي: بقدرة الله عز وجل وإرادته، لأن العبد لا يستطيع أن يفعل شيئاً رغماً عن الله، أو بغير إرادة الله، فكل ما يقع في الكون من خير أو شر يكون بإرادة الله، أما الله تعالى فيثيب من فعل خيراً ويعاقب من فعل شراً، ويعاقبه وقد قدره عليه لأنه أفرغ له العذر ببعثة الرسل، وإنزال الكتب، والعقل الذي هو مناط التكليف، فلو أنك الآن أردت أن تذهب إلى بلد ما من البلدان، ويؤدي إلى هذا البلد طريقان: أحدهما معبد ممهد، والآخر مليء بالحجارة والتكسير وغير ذلك مما يعرقل حركة السير، فأي الطريقين تسلك حينئذ؟ لا شك أنك ستسلك الطريق المعبد، وهو طريق الأنبياء إلى الله عز وجل.

ثم من منا لا يعلم أن الزنا حرام؟ ومع هذا يختار لنفسه الزنا، من منا لا يعلم أن القتل حرام؟ ومع هذا يقترفه، ومن منا لا يعلم أن شرب الخمر حرام؟ ومع هذا يقع فيه باختياره، فلما علم الله تعالى سلفاً أن هذا العبد يخالف طريق الأنبياء، وكان عاقلاً مكلفاً مميزاً وقت ارتكابه للفعل الحرام، ومع هذا قد اختاره على الحلال وجعل الحلال خلف ظهره، كتب الله عز وجل ذلك عليه، فكيف يكون الإنسان حينئذ مسيراً؟ لا بد أن العبد قد اختار هذا الفعل بمحض إرادته؛ لأنه يعلم أ