للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان ما يجوز فيه أن يقال عن الصحابة إذا ذكروا وما يجب الإمساك عنه عند ذكرهم]

قال: [وكذلك أمر الصحابة رضي الله عنهم، فكذلك أمرهم على وجهين.

الأول: فرضي علينا علمه والعمل به، والثاني: يحرم علينا الخوض فيه.

فأما الواجب علينا علمه والعمل به فهو ما أنزله الله في كتابه من وصفهم وما ذكره من عظيم أقدارهم وعلو شرفهم ومحل رتبتهم، وما أمرنا به من الاتباع لهم بإحسان مع الاستغفار لهم، وعلم ما جاءت به السنة من فضائلهم ومناقبهم، وعلم ما يجب علينا حبهم لأجله من فضلهم وعلمهم ونشر ذلك عنهم؛ لتنحاش القلوب إلى طاعتهم]، أي: لتنحاز وتميل القلوب إلى طاعتهم.

قال: [وتتألف على محبتهم، فهذا كله واجب علينا علمه والعمل به.

ومن كمال ديننا طلب ذلك]، كما أنه من كمال ديننا معرفة فضائل الصحابة رضي الله عنهم ونشر هذه الفضائل والمناقب في الناس؛ حتى يتحلوا بهذه الأخلاق الكريمة التي هي أخلاق سلفنا رضي الله عنهم خاصة أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.

قال: [وأما الذي يجب علينا تركه ويحرم علينا الخوض فيه وفرض علينا الإمساك عنه هو النظر فيما شجر بين الصحابة] النظر فيما اختلف فيه الصحابة خلافاً أدى إلى النزال والوقاع والحروب بينهم لا أن ذلك في الفروع، فالصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في فروع المسائل العملية التي هي مسائل الأحكام الفقهية، فهذا لم ننه عن النظر فيه بل نحن مستفيدون من اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في المسائل العملية هذه.

أما ما شجر بينهم من خلاف ونزاع وحروب فنحن قد أمرنا أن نمسك عن هذا؛ ولذلك لما سئل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه عن الفتنة التي جرت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما فقال: فتنة نزه الله منها سيوفنا، فلم لا ننزه منها ألسنتنا؟ فهذا كلام الإنسان الفقيه البصير بما وجب عليه وما نهي عنه، فيحرم علينا النظر فيما شجر بينهم.

قال: [والخلف الذي كان جرى منهم؛ لأنه أمر مشتبه، ونرجئ الشبهة إلى الله عز وجل، ولا نميل مع بعضهم على بعض، ولا نظلم أحداً منهم، ولا نخرج أحداً منهم من الإيمان، ولا نجعل بعضهم على بعض حجة في سب بعضهم لبعض، فرضي الله عنهم].

فإذا وقع بينهم السباب والشتائم فهل هذا حجة لنا أن نسب أحد الفريقين؟ ليس في ذلك حجة، ولذلك كلام الأقران يطوى ولا يروى، فضلاً عن أن هذا السب فيما يبدو للقائل أو الناظر أنه سب، لكن لو أخذنا مثالاً لقول عائشة رضي الله عنها في أبي هريرة رضي الله عنه.

تقول: كذب أبو هريرة لم يكن رسول الله عليه الصلاة والسلام يسرد الحديث كسرده هذا؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه كان يجلس تحت جدار غرفة عائشة رضي الله عنها في المسجد، ويسأله الصحابة والتابعون، فيسرد لهم الحديث سرداً، وكان مكثراً وأمة في العلم كما تعلمون.

فقالت عائشة رضي الله عنها: (كذب أبو هريرة.

والله ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسرد كسرده، وإنما كان إذا أراد العاد أن يعد كلامه لأحصاه؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً لتفهم عنه) وفي رواية: (لتعقل عنه)، ولما سئلت عائشة عما قال عبد الله بن عمر في شأن تعذيب الميت ببكاء أهله وأنه قال: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)، قالت: كذب أبو عبد الرحمن، إنما ذلك الكافر هو الذي يعذب ببكاء أهله عليه.

فالشاهد هنا: أنها قالت: كذب أبو عبد الرحمن، وفي الحقيقة لو نظرنا إلى معنى الكذب في اللغة والاصطلاح لوجدنا أن الكذب: هو إخراج الكلام على غير الحقيقة، وأرادت عائشة رضي الله عنها بإطلاق لفظ الكذب أن أبا عبد الرحمن تكلم بكلام على غير جهة الحقيقة، كأنها قالت: أخطأ أبو عبد الرحمن، فالكذب بمعنى: الخطأ.

أخطأ أو ظن ظناً لا يوافق الواقع أو الحقيقة.

فالصحابة رضي الله عنهم إذا وقع منهم شيء من ذلك فلا يحل لنا نحن أن نقول: كذب أبو عبد الرحمن أو كذبت عائشة، وإنما يجب علينا تركه كما قلنا.

قال: [ولا نجعل بعضهم على بعض حجة في سب بعضهم لبعض، ولا نسب أحداً منهم بسبه صاحبه، ولا نقتدي بأحد منهم في شيء جرى منه على صاحبه، ونشهد أنهم كلهم على هدى وتقوى وخالص إيمان؛ لأنا على يقين من نص التنزيل وقول الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم أفضل الخلق، وخير الخلق بعد نبينا صلى الله عليه وسلم؛ ولأن أحداً ممن أتى بعدهم ولو جاء بأعمال الثقلين الإنس والجن من أعمال البر، ولو لقي الله تعالى ولا ذنب له ولا خطيئة عليه؛ لما بلغ ذلك أصغر صغيرة من حسنات أدناهم، وما فيهم دني، ولا شيء من حسناتهم صغير.

والحمد لله].