للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المراد بالتقدير في قول آدم: أتلومني على أمر قدره الله علي]

المراد بالتقدير في قول آدم عليه الصلاة والسلام: (أتلومني على أمر قدره الله علي)، لا يفهم من كلمة (قدره): أنه مجبور على ذلك؛ لأن الجبرية من الفرق الضالة الهالكة، والمعنى الصحيح لكلمة: (قدره)، أي: كتبه الله علي.

إذاً: التقدير هنا بمعنى: الكتابة، بدليل أنه قال: أنا أقدم أم الذكر؟ قال له: الذكر، قال: أنت نفسك قرأت في الذكر أنني أفعل هذا قبل أن أخلق بأربعين عاماً.

قال: وفي صحف التوراة وألواحها، هل كتبه علي قبل خلقي بأربعين سنة؟ وقد صرح بهذا في الرواية التي بعد هذه فقال: (بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين سنة)، أي: أن التوراة التي نزلت على موسى قد كتب فيها أن آدم عليه السلام سيرتكب ما ارتكب قبل ذلك بأربعين سنة.

قال: (قال: أتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة)، فهذه الرواية مصرحة بالمراد بالتقدير، وأنه الكتابة، إذاً (أتلومني على أمر قدره الله علي)، أي: كتبه الله علي، والكتابة مرتبة ثانية متعلقة بالمرتبة الأولى من جهة علم الله، أي: أن الله تعالى علم أزلاً ما يكون من العباد من خير وشر، وصالح وطالح، فلما كان ذلك كتبه في اللوح المحفوظ، ولا يجوز أن يراد به حقيقة القدر، فإن علم الله تعالى وما قدره على عباده وأراد من خلقه أزلي لا أول له؛ لأنه لا يصح أن نقول: إن علم الله تعالى متعلق بخلقه قبل أن يخلقهم بأربعين سنة؛ لأن هذا القول يستلزم أن الله كان جاهلاً فعلم، وهذا كفر.

ولم يزل سبحانه مريداً بما أراده من خلقه من طاعة ومعصية وخير وشر، (فحج آدم موسى)، أي: غلبه بالحجة، وظهر عليه بها، ومعنى كلام آدم: أنك يا موسى! تعلم أن هذا كتب وقدر علي قبل أن أخلق، فلا بد من وقوعي فيه، ولو حرصت أنا والخلائق أجمعون على رد مثقال ذرة منه لن نقدر، فلم تلومني على ذلك؟ واللوم على الذنب شرعي لا عقلي، وإذا تاب الله تعالى على آدم وغفر له زال عنه اللوم، فمن لامه كان محجوجاً بالشرع لا بالعقل، فإن قيل: فالعاصي منا لو قال: هذه المعصية قدرها الله علي.

لم يسقط عنه اللوم والعقوبة بذلك، كأن تقول لشخص يشرب الخمر: يا فلان ماذا تعمل؟ فيقول لك: هذا مقدر علي! فهل تحتج بالقدر على المعصية؟ المتفق عليه بين أهل السنة والجماعة أن القدر يحتج به في باب المصائب لا في باب المعائب، مثل أن يقول شخص لمريض: لماذا يا أخي! أنت مرضت؟ فيقول له: هذا قدر، واحتج له بالقدر؛ لأن المرض هذا لا أملكه، ولست سبباً فيه، كما لو حصلت حادثة لأناس فماتوا، فلا نقول: لماذا؟ فهذه مصيبة نزلت بهؤلاء، فيجوز أن يحتج على المصائب والبلايا، والأمراض، والأوجاع، والأسقام بالقدر، أما المعائب والذنوب فلا، لكن كلمة (لا) انتبه منها؛ لأنها محل نزاع، والنزاع فيها متعلق بمن تاب من الذنب، فهل يجوز له أن يحتج بالقدر فيقول: هو قدر الله عز وجل.

كأن يزني شخص وهو غير محصن ثم يأتي الإمام فيقول: يا إمام! أنا زنيت، أقم علي الحد، طهرني، فهو أتى تائباً، وأنتم تعلمون أن الحدود كفارات لأهلها، فأقمنا عليه الحد مائة جلدة وتغريب عام.

فهل يجوز لهذا التائب إذا سئل أو ليم على هذا الفعل أن يقول: هو قدر الله عز وجل؟ أنا أعتقد -المسألة محل نزاع- أن التائب من الذنب يجوز له أن يحتج بالقدر بعد التوبة، أما قبل التوبة وفي أثناء التوبة فلا.