للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم اتكال العباد على المكتوب]

قال: [وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رجالاً قالوا: (يا رسول الله! أرأيت ما نعمل، أفي شيء قد فرغ منه، أم في شيء نستأنفه -أي: نستقبله-؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بل في أمر قد فرغ منه)، كما قيل لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أوكلما نعمل الآن كتبه الله تعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ فبلَّ إبهامه وطبع به في بطن كفه وقال: أرأيتم هذه؟ قالوا: نعم.

قال: والله إنها لمكتوبة في الكتاب قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، انظروا إلى إيمان علي بن أبي طالب وفهمه لمسألة القدر، قال: وهذا الذي فعلته أنا الآن والله إنه لمكتوب في اللوح قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

قال: [(قالوا: هل الذي نعمله قد فرغ منه أم في شيء نأتنفه؟ فقال: بل في أمر قد فرغ منه، فقالوا: فكيف بالعمل بعد القضاء؟) يعني: ما قيمة أن نعمل؟ والأمر ببساطة شديدة جداً يا إخواني! أن الله تعالى كتب أن عبده من أهل الجنة أو من أهل النار، فهذا العبد هل له علم بالمكتوب عند الله عز وجل؟ لا علم له، إذاً: المطلوب مني: أن أعمل لمصلحتي ولمنفعتي، فعملي لمصلحتي ومنفعتي هو اتباع الكتاب والسنة، لعل الله عز وجل يختم لي بالباقيات الصالحات، هذا رجائي في الله عز وجل.

إذاً: المطلوب مني أن أجد فيما ينفعني في آخرتي، أما الذي هو عند الله تعالى فلا يعلمه إلا الله، إذاً: إذا عملت عملاً صالحاً سيغلب على ظني أن الله تعالى مهد لي ويسر لي هذا حتى أحصل على الجنة بسبب العمل، وإن كان دخول الجنة ابتداءً بفضل الله عز وجل؛ لأنه مهما يعمل العاملون لا يستحقون به دخول الجنة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (وإن العبد ليأتي يوم القيامة وكان من أبأس الناس -من الفقر والمصائب والبلايا والأمراض والتعذيب والسجون وكبت الحريات- فيغمس في الجنة غمسة واحدة، فيقال له: هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا وعزتك يا رب! ما رأيت بؤساً قط) غمسة واحدة في الجنة تنسيه كل مآسي الدنيا.

وكذلك (يؤتى بأنعم أهل الدنيا -ممن كان يتنعم بالمحرمات والملذات والشهوات- فيغمس في النار غمسة واحدة، ويقال له: هل رأيت نعيماً قط؟ قال: لا وعزتك يا رب! ما رأيت نعيماً قط).

إذا كانت غمسة واحدة في الجنة تنسي العبد ما كان فيه من ضنك وجحيم وعذاب، والدنيا على أية حال سجن المؤمن وجنة الكافر.

الحافظ ابن حجر له موقف عظيم من هذا الحديث، أنتم تعلمون أن الحافظ ابن حجر كان يسكن على النيل في القاهرة فيما يسمى الآن بالمنيل، وكان قاضي القضاة في مصر، وأنتم تعلمون أن قاضي القضاة له موكب وصولجان وغير ذلك، له موقف الأبهة والعظمة، لكن ابن حجر لقيه رجل من اليهود في هذا الهملجان وهذا الصولجان، وكان اليهودي يبيع الزيت فقال: يا قاضي القضاة! أليس قد قال نبيكم: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر؟ قال: بلى.

قال: أما تراني بهذا المنظر وترى نفسك بهذا الموكب، فأنت في جنة وأنا في نار؟ كأنه يزعم أن نبينا كذب في ذلك وقال غير الحق، فأنار الله تعالى بصيرة الحافظ وقال له: أنت بالنسبة لما أعد لك في الآخرة في جنة، وأنا بالنسبة لما أعد الله لأهل الإيمان في الآخرة في نار رغم ما ترى.

انظروا إلى هذه البصيرة، فأسلم اليهودي في الحال، فهذا كلام عجيب ونور إلهي.

فلا الحافظ ابن حجر ولا غير الحافظ ابن حجر يعلم بما يختم له؛ ولذلك قال: وأنا بالنسبة لما أعد لأهل الإيمان ولم يقل: بالنسبة لما أعد لي، وإنما قال: بالنسبة لما أعد لأهل الإيمان أنا الآن في نار؛ لأن المرء لو دخل الجنة لحظة واحدة يعلم أن هذه الدنيا مهما كان فيها من نعيم هي دار شقاء ومتاعب ومصائب وبلايا وأمراض وهموم وأحزان وغير ذلك.

فدخول الجنة برحمة الله تعالى والعمل سبب لذلك، فإذا كان العمل سبباً لسعادة سرمدية أبدية لا نهاية لها ولا انقطاع فيها فينبغي أن يعمل المرء وأن يجد ويجتهد، وإذا كان يعلم أن السعادة والشقاء بيد الله عز وجل فليتضرع ويتذلل إلى مولاه وسيده الذي يملك الشقاء والسعادة والضر والنفع أن يجعله من أهل السعادة.

لكن عندما يتكل الإنسان على المكتوب ويقول: فيم العمل إذاً؟ فهذا لا يمكن أبداً، وليس هذا ديناً، ولا حتى دين اليهود والنصارى ولا دين المجوس، فلا يصح أن يذكر هذا الكلام إنسان عاقل أبداً: نعتمد على المكتوب! وما أدراك ما المكتوب لك؟ هل أنت أيقنت لكونك مسلماً أنك من أهل الجنة، فربما خُتم لك بالردة عياذاً بالله، فدخلت النار وخُلدت فيها مع الخالدين فيها، فما أدراك بما كتب الله تعالى لك؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الأعمال بالخواتيم)، ويقول: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح