للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وجوب الإيمان بخلق الله لأفعال العباد خيرها وشرها]

قال: [وعن جابر: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! فيم العمل؟ أفي شيء قد سبق أم شيء نستأنفه؟ قال: بل في شيء قد سبق) أي: أعمالكم التي تعملونها من خير أو شر موافقة لما في الكتاب، الله تعالى علم ذلك أزلاً فيسركم لذلك: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:٨]، ألهمها فجورها الذي اختارته، وتقواها الذي اختارته، فيسرك للفجور ويسرك للتقوى؛ لأن الله تعالى علم أزلاً قبل أن يخلقك أنك تحب طريق التقوى هذا، فجعل الأمور ميسرة ممهدة لك تسلكها؛ لأنك محب لذلك مقبل عليه، وأما هذا العبد فإنه يأنف من أعمال التقوى ولا يحبها، وإنما يختار طريق الفجور فمهده لذلك، ومعنى مهده لذلك: أذن له في وقوع الفجور منه، وهذا الذي يسميه العلماء بمرتبة الخلق والإيجاد، من مراتب القدر مرتبة الخلق والإيجاد، فالله تعالى خالق كل شيء حتى الشر، نعم.

حتى الشر فإنه من خلق الله؛ لأنه لا خالق إلا الله، فالله تعالى هو الذي خلق الخير وخلق الشر، من الذي خلق إبليس رأس الشر؟ هو الله عز وجل، فالله تعالى خالق كل شيء.

وهكذا خلق الله تعالى الشر أي: أذن في وقوع الشر في كونه؛ لأنه لا يكون في الكون إلا ما أراد وقدر سبحانه وتعالى، إرادة كونية قدرية.

فلما قدر الله تبارك وتعالى وقوع الشر قدره من باب الإيجاد والخلق، يعني: هو الذي أذن في وجوده وأذن في خلقه، لكن الذي اكتسب الشر، وباشره وعمله بجوارحه هو العبد، هل للعبد أن يعمل شيئاً من خير أو شر إلا بإذن الله وقدرة الله وخلق الله وإرادة الله؟ لو قال زانٍ: أنا سأزني أذن الله في ذلك أو لم يأذن، هل يصح ذلك منه؟ لا يصح؛ لأن كل حركات العبد وأعمال العبد مخلوقة لله تعالى، إن كانت خيراً فخير، وإن كانت شراً فشر؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى خالق كل صانع وصنعته).

فالذي صنع هذا المسجل هو الله عز وجل؛ لأن الله تعالى خالق مَن صَنعه، فمعنى (أن الله تعالى خالق هذا المسجل وصانع لهذا المسجل): أنه أذن في إيجاده وفي خلقه وتكوينه، أي: أذن لصانعه أن يصنعه، ولو أراد صانعه أن يصنعه بإرادته دون إرادة الله لا يكون ذلك أبداً.

إذاً: فالله تعالى هو الذي أذن في خلق هذا وفي وجود هذا وفي صنع هذا، لكن من الذي باشر الصنع وباشر الإيجاد لهذا؟ هو الصانع الذي صنعه: (إن الله تعالى خالق كل صانع وصنعته) أي: وصنعته مخلوقة لله تعالى.

لو أردت أن تتكلم وما أراد الله لك الكلام لا تستطيع أن تتكلم، لو أردت أن تمشي وما أراد الله لك المشي لا يمكن أن تمشي، لو أردت أن تسكت وأراد الله لك النطق لابد أن تنطق.

إذاً: كل أعمالك من خير وشر مخلوقة لله تعالى، ومعنى (مخلوقة): أن الله تعالى أذن في وجودها، لكن العبد هو الذي باشر الوجود بنفسه وباشر العمل بجوارحه، فهذا معنى أن العبد يحاسب على عمله.

إن الله تعالى لما شرع شرعه حث الناس عليه، وبين لهم فضل الطاعة، وذم المعصية وحذر منها، وبين لهم مغبتها وعاقبتها، لينتهي الناس عن المعاصي ويقبلوا على الطاعة، الله تعالى أذن في خلق الكفر، وفي إيجاد الكفر في الكون، فهل الله تعالى يحب الكفر؟

الجواب

لا يحبه، بل ويمقته، ويدخل أصحابه النار مخلدين فيها ومع هذا أذن في وجوده.

ولما أذن الله تعالى أزلاً في وجود الكفر؛ لأنه علم أن بعض عباده وخلقه يختارون طريق الكفر مع وجود الإيمان وظهوره، وظهور طريقه وأهله، وما الحرب الضروس التي تدور بين كُتَل مجتمع المعمورة كلها إلا مرده إلى الإيمان والكفر، أهل الإيمان يعلمون أنهم على الحق المبين، وأنهم أصحاب الرسل وأتباعهم، وأن هؤلاء الكفار هم الذين خرجوا عن الرسل؛ فيستحقون بذلك القتل، دليلهم في ذلك: قال الله، وقال الرسول، وأجمع أهل العلم.

أهل الكفر يعلمون أنهم على الكفر المبين، عرفتها أنفسهم وجحدتها ألسنتهم علواً واستكباراً.

وللأسف الشديد بعض أهل العلم الآن عندهم علم ومنسوبون إلى العلم، لكنهم في حقيقة الأمر ليسوا من أهل العلم المعتبرين، وإنما هؤلاء يفتون الفتاوى مدفوعة الأجر مسبقاً ومقدماً؛ يستنكرون على أبناء الصحوة وشباب الدين أنهم يقولون: أهل الكتاب كفار، يستنكرون علينا أننا نقول ذلك، مع أن هذا القول لا نعلم لأحد من السلف خلافه، بل ولا حتى الخلف، لا نعلم أن أحداً ممن له اتصال من قريب أو بعيد بأهل العلم يقول: إن أهل الكتاب ليسوا كفاراً بعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام.

أما قبل ذلك فإن أتباع الأنبياء مسلمون على شرائع أنبيائهم، منهم العاصي والمفرط، ومنهم المتبع المقتدي والمهتدي، وأما بعد بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام وبلوغ الدعوة إلى العالمين فإن من خالف النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن تابعاً له لا شك أنه من الكفار؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده ما من أحد يهودي ولا نصراني من هذه الأمة يسمع بي ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار، ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، وعيسى عليه السلام ي