للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفريق الله تعالى في كتابه بين المؤمن والفاسق أو المنافق]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} [السجدة:١٨] هذه الآية فيها رد على المرجئة الذي يقولون: إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل، لأنهم يخرجون العمل عن ماهية الإيمان وعن مسمى الإيمان وعن حقيقة الإيمان، فيقولون: الإيمان هو: التصديق بالقلب والقول باللسان.

والجهمية يقولون: الإيمان هو المعرفة، حتى وإن لم يستقر ذلك في القلب، وإن لم يتلفظ به اللسان، فإبليس عليه لعنة الله يعلم جيداً أن الله عز وجل حق، وبالتالي يرد عليهم بأيسر ما يمكن؛ لأن حجتهم أوهن من بيت العنكبوت.

وكذلك المرجئة الغلاة فهم لا يفرقون بين الطائع والعاصي؛ وهذا كلام استقر في أذهان العامة، فضلاً عن الخاصة؛ فالذي يزني ويعتاد الزنا ليس كالطاهر العفيف، حتى في أعراف الناس لا يستويان، وكذلك السارق الذي أدمن وألف السرقة لا يمكن قط أن يستوي مع إنسان عف نفسه عن الحرام أو امتنع عما ليس له.

فالمرجئة يقولون: إيمان أطوع الناس لله عز وجل كإيمان أعصى الناس لله عز وجل.

إذا كان إيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليس كإيمان جبريل، وأبو بكر رضي الله عنه هو من هو في الإمامة والهدى والعلم وغير ذلك؛ ومع هذا لا يستوي إيمانه مع إيمان جبريل عليه السلام، بل جبريل عليه السلام أسبق إيماناً من أبي بكر؛ لأن الله تعالى خلق الملائكة قبل أن يخلق الإنس، فجبريل في الخلق سابق على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأبو بكر الصديق في آخر أمة من أمم الله عز وجل، فجبريل قد وحد الله تعالى آلاف السنين قبل أن يخلق الله أبا بكر، فكيف يستويان، فضلاً عن استواء العاصي مع الطائع؟ ولذلك الله تعالى إنما ذكر هذه الآية على سبيل التقريع والتوبيخ أو لفت الأنظار.

فقال: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} [السجدة:١٨]، يعني: هما الاثنان لا يستويان، فبين الله تبارك وتعالى الفرق بين المؤمن العامل بمقتضى الإيمان وبين الفاسق الذي لم يعمل بمقتضى الإيمان.

قال: [وقال تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت:١١]]، ففرق بين الإيمان والنفاق، فالنفاق هو إبطان الكفر وإظهار الإسلام، ولكن إذا خفي هذا على الخلق فإنه لا يخفى على الله عز وجل، والله تعالى يعلمه حقيقة العلم قبل أن يوجد وقبل أن يخلق.

قال: [وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:٦٧]، فكيف يكون مؤمناً من كان فاسقاً منافقاً؟ وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:٨]]، النداء وجه لأهل الإيمان، فإذا كان الإيمان اسم مدح لصاحبه فلم أمرهم الله عز وجل في هذه الآية بعد أن مدحهم أن يتوبوا إليه؟ وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل بني آدم خطاء) ولفظ (كل) من ألفاظ العموم، والراجح أن الأنبياء غير معصومين من الصغائر، وهذا مذهب جماهير أهل العلم من أهل السنة وهو الحق الذي أيدته الأدلة من الكتاب والسنة، فأصلح الصلحاء، وأطوع الطائعين من بعد الأنبياء أولى باقتراف الذنب، إما هفوة ولمماً أو صغيرة وإما كبيرة، بل أحياناً نجد من أهل الصلاح من يرتد عن دين الله عز وجل ثم يرجع إليه أخرى، فالنداء هنا لأهل الإيمان الممدوحين سلفاً.

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:٨] توبوا: فعل أمر يفيد الوجوب.

أي: توبوا توبة خالصة صادقة لا ترجعوا بعدها إلى الذنب، بأن تعزموا على الاقتلاع والانتهاء عن المعصية، وأن تتفطر قلوبكم عما بدر منكم، مهما قل ودق وصغر حجمه.

قال: [ولا شك أن التوبة تكون من المحظورات والمناهي]، فالمسلم يتوب من شيء وقع فيه، من معصية صغيرة أو كبيرة، فإذا كان الله تعالى أمر أهل الإيمان أن يتوبوا فمن باب أولى أن يوجه هذا النداء لأهل العصيان والفجور والفسوق وغير ذلك من أصحاب الكبائر.

فدلت هذه الآية مع قوله عليه الصلاة والسلام: [(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة كبيرة يتطلع إليه فيها الناس بأبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، ولا يغل الغال حين يغل وهو مؤمن)].

أي: لا يزني الزاني، ولا يسرق السارق، ولا ينهب الناهب، ولا يغل الغال، إلا ويسلب عنه اسم الإيمان، لكن سلب الإيمان لا يدل على أنه قد كفر؛ لأن بعض الناس يقول: إن لم يكن مؤمناً لا بد أن يكون كافراً، لابد أن تعلم كما قال كثير من السلف وأشاروا بأصابعهم إلى أن الإسلام دائرة كبيرة عظيمة، وأن الإيمان هكذا، وحلقوا بأصابعهم حلقة صغيرة في وسط دائرة الإسلام، إذا نزع هذا الإيمان لا بد أن يقع صاحبه في دا