للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[السحر ليس فيه شيء خارق للعادة]

وما يظهر منها على غير حقيقتها يعرف ذلك بالتأمل والبحث ومتى شاء أن يتعلم ذلك بلغ فيه مبلغ غيره، ولذلك قال الراهب للغلام لما قال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتلها، فلما رماها بحجر قتلها، ولما ذهب إلى الراهب وقص عليه ما كان منه قال الراهب: إنك اليوم أفضل مني، أي: بلغت مبلغي وزيادة، ولو أن شخصاً لا علاقة له بالسحر يذهب ليتعلم السحر على يد فلان من الناس قد يتفوق عليه، أما الكرامة فلا يمكن أن نتعلمها؛ لأن الكرامة والمعجزة منحة من الله، الأولى على يد ولي، والثانية على يد نبي أو رسول، بخلاف السحر فإنه علم يتعلمه صاحبه، ومصدره الشيطان، وإذا أراد أحد أن يتعلم السحر ربما فاق المعلم، أو ضاهاه، أو قاربه، حتى ولو بذكائه، لكن المعجزة ليست من هذا الباب، لا تخضع لتعليم، وكذا الكرامة لا تخضع لتعليم.

وقد تناول الإمام القرافي هذا المعنى في الفرق بين السحر والمعجزة، حيث قال: الفرق بينهما أن السحر والطلسمات والسيمياء ليس فيها شيء خارق للعادة؛ بل هي عادة جرت من الله بترتيب مسبباتها على أسبابها، غير أن تلك الأسباب لم تحصل لكثير من الناس بل للقليل، ولذلك ليس كل الناس سحرة، وهناك بقاع من الأرض يغلب عليها السحر، فمثلاً: بلاد المغرب العربي وبالذات دولة المغرب فإن السحر فيها مثل (السلام عليكم)، وضع طبيعي جداً، وأنا يحزنني جداً أن أقول: إن العلماء السلفيين وطلاب العلم السلفيين متأثرون بالسحر، وهم منتشرون في أمريكا بالذات؛ لأن بلاد المغرب أقرب البلاد العربية لأمريكا، فبينهما المحيط، ومع هذا لا يزال عندهم لوث السحر، وإذا راجعتهم غضبوا غضباً شديداً جداً، مع صحة اعتقادهم في العموم، فهذا الباب كأنهم مسحورون فيه أيضاً، حتى إن أحد الإخوة الطيارين من بلاد السعودية كان استنصحني ذات مرة أن يغير طريقه من القاهرة جدة إلى جدة المغرب، فقلت له: احذر السحر، وما سمع الكلام حتى ذهب إلى هناك فسحرته امرأة في مطار المغرب؛ لأن السحر عندهم في وضع طبيعي جداً، حتى إن الساحر يسحر الساحر، فالسحر في المغرب أعظم انتشاراً من أمريكا وأوروبا، مع اشتهار السحر في تلك البلاد، لكنه في المغرب أكثر من ذلك بكثير.

قال: بل هي عادة جرت من الله بترتيب مسبباتها على أسبابها، غير أن تلك الأسباب لم تحصل لكثير من الناس، بل للقليل منهم كالعقاقير التي تعمل منها الكيمياء، والحشائش التي يعمل منها النفط الذي يحرق الحصون والصخور، والدهن الذي من ادهن به لم يقطع فيه الحديد.

وقد جرت مناظرة بين ابن تيمية وبين الرفاعية، فقالوا له: ندخل النار وأنت معنا؛ والذي يحرق منا دليل على فساده، والذي لا يحرق دليل على صلاحه، فوافق ابن تيمية على ذلك نصراً للدين، وتوكلاً على الله، ويقيناً في الله، وقال: ولكن لي شرط، أن يغتسل الجميع قبل دخول النار، لأنه يعرف أنهم سوف يتدهنون بنوع من الدهن لا يتأثر بالنار، ولا تؤثر فيه النار، فرفضوا على الفور، فعلم أنه صاحب الحق.

وكذلك إذا وجدت أسباب السحر الذي أجرى الله به العادة حصل، فالسحر مترتب على درجات وأسباب، إذا أتى الساحر بهذه الدرجات وتلك الأسباب حصل السحر، وكذلك السيمياء، وغيرها.

فالمعجزة في نهاية الأمر لا يمكن مضاهاتها، ولا يعلم البشر لها سبباً، أما السحر فله أسباب خفية، هذا فارق بين المعجزة وبين السحر، لا يمكن لشخص أن يأتي بمعجزة، والنبي عليه الصلاة والسلام لما أتى بهذه المعجزة تحداه بلغاء العرب الذين لم يؤمنوا بالله، وقالوا: نحن باستطاعتنا أن نأتي بقرآن مثل قرآنك وأحسن منه، فأتوا بفضائح ومخازي حتى إن بعضهم قال لبعض: إنكم لتعلمون أننا نعلم أنكم كاذبون، يعني: نحن كتبناه مع بعض وفهمنا أن هذا سحر، ودجل، وشعوذة، وكلام فارغ، لا يصلح أن يكون من عند العقلاء فضلاً أن يكون من رب العالمين.

وقد استطاع البشر في هذا العصر أن يصلوا إلى هذا الذي وصل إليه الجن، فقد دار الحوار بين سليمان عليه السلام وبين الطير والدواب والهوام والحشرات وغير ذلك، قال تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل:٣٨]، فقال له أحدهم: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل:٣٩]، فالعالم كله مسخر لسليمان عليه السلام، وهذا ملك خاص به عليه الصلاة والسلام، هذا ليس معجزة للطير، ولا للهدهد، وإنما معجزة لسليمان عليه السلام؛ لأنه صاحب السلطان في هذا البلد، ولا أدل على حصول ذلك للأنبياء ما قد وقع وتم في هذا الزمان من الاتصالات الهاتفية، واللاسلكية، وسرعة الضوء، وسرعة الكهرباء، فإن ملايين الأميال في الثانية الواحدة لسريان التيار الكهربائي في الأسلاك.

فكذلك الشياطين يضلون بهذا العباد ولا يمكنون العباد من الاستفادة منها إلا إذا عبدوهم من دون الله، والانتقال من مكان إلى مكان بسرعة فائقة أصبح اليوم يتم في وقت قصير، والمسافر من المدينة إلى الشام أو من المدينة إلى مصر كان يستغرق عشرين يوماً وأحياناً ش