للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حديث عائشة في قصة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبيها إلى المدينة]

قال: [وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد أريت دار هجرتكم -يعني: المدينة- أريت سبخة ذات نخل بين لابتين، وبهما حرتان) يعني: قبل أن أدخل المدينة قد رأيتها، قيل: رآها على قطعة من قماش، وقيل: أنه رآها في المنام وغير ذلك من تأويلات هذا الحديث.

والراجح من أقوال أهل العلم: أنه يتكلم هنا عن رؤيته للمدينة في المنام، ولا مانع أن يكون رآها مصورة على قطعة من قماش أو زجاج أو صخر أو غير ذلك، المهم أنه رأى المدينة ورأى أنها في واد بين لابتين -أي: بين جبلين عظيمين- وفي سفح هذين الجبلين حرتان عظيمان، والحرة: هي الكومة أو الجبل الصغير من حجارة سوداء.

[قالت: (فهاجر من هاجر قِبَل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: لما ذكر لهم هذا الكلام هاجر من هاجر من أصحابه إلى المدينة- ورجع إلى المدينة بعض من هاجر إلى أرض الحبشة -كما فعل جعفر رضي الله عنه- وتجهز أبو بكر مهاجراً إلى المدينة) يعني: أراد أبو بكر أن يهاجر إلى المدينة لما سمع أن النبي عليه الصلاة والسلام أريها في المنام، فأراد أن يحوز قصب السبق في الهجرة إلى المدينة قبل أن يأذن عليه الصلاة والسلام، [فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على رسلك -أي: تمهل يا أبا بكر! - فإني أرجو أن يؤذن لي) أي: بالهجرة من مكة إلى المدينة، فإذا كان الأمر كذلك، فأنت صاحبي في هذه الهجرة، [(فقال أبو بكر: أوترجو ذلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟! قال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم)، فحبس أبو بكر الصديق رضي الله عنه نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحبته، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر]، وهكذا أعد أبو بكر راحلتين لهذه الرحلة العظيمة التي هي أعظم حدث في تاريخ البشرية على الإطلاق، كما أنه حبس نفسه على صحبة النبي عليه الصلاة والسلام ولم يفكر بالهجرة وحده قط.

[قالت عائشة: (فبينما نحن جلوس في بيتنا في نحر الظهيرة قال قائل لـ أبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم)]، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يزور أبا بكر غدوة وعشياً، ولم يكن معتاداً أن يزوره في وقت القيلولة أو في وقت الظهيرة، ففي وقت الظهيرة وأبو بكر رضي الله عنه قائل في بيته ناداه مناد: [هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها]، وهذا قول عائشة.

[قال أبو بكر: (فداه أبي وأمي إن جاء به هذه الساعة إلا لأمر)] يعني: ما جاء به في هذه الساعة على غير عادته في زيارتنا إلا أمر عظيم دفعه إلى ذلك.

[قالت: (فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام حين دخل لـ أبي بكر: أخرج مَن عِندَك؛ لأن الأمر يستدعي السرية التامة- قالت: فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله!)]، وهو يتكلم عن أبيه وعن بنيه وعن زوجه، وهؤلاء هم أهل النبي عليه الصلاة والسلام، بمعنى: أنهم يحفظون السر كـ أبي بكر تماماً بتمام وسواء بسواء، [فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنه قد أذن لي في الخروج -أي: في الهجرة من مكة إلى المدينة -فقال أبو بكر: فالصحبة يا رسول الله! -يعني: ائذن لي أن أصحبك في هذه الرحلة- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم.

فقال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله! أحد راحلتي هاتين، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بالثمن آخذها، قالت: فجهزناهما أحث الجهاز -يعني: أحسن الجهاز- فصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء ابنة أبي بكر من نطاقها -أي: من خمارها- فأوكت به الجراب -أي: فربطت به الجراب- فلذلك كانت تسمى ذات النطاق -وفي رواية: ذات النطاقين- لأنها قطعت خمارها نصفين وأوكت به الجراب فسميت ذات النطاقين -ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بغار في جبل يقال له: ثور، فمكث فيه ثلاث ليال)]، وهذا الحديث عند البخاري ومسلم.