للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان أن الله عالم بعلم وأن علمه غير مخلوق]

قال: [وأن علمه غير مخلوق].

ليرد على القدرية الذين نفوا علم الله تبارك وتعالى الأزلي السابق؛ لأنهم قالوا: إن الله تعالى لم يكن عالماً، ثم علم بعد ذلك، وبعد أن علم خلق الخلق.

فقولهم: (إن الله لم يكن عالماً فصار عالماً).

هذا نقص.

وكذلك قولهم: (لم يكن سميعاً فصار سميعاً)، فالكلام في اسم واحد أو في صفة واحدة كالكلام في جميع الأسماء والصفات، ولا يجوز لأحد أن يقول: إن الله عالم بغير علم، ولكنه سميع بسمع.

وخلافه تخبط وخبل؛ لأن الكلام في الأسماء والصفات كلها شيء واحد في جهة الإثبات، أو في جهة النفي، فإذا كان في الكمال فهو كلام في الإثبات، وإذا كان في النقص فهو كلام في النقص، لأن الله تعالى متصف بكل كمال، منزه عن كل نقص.

إذاً: قوله: [إن الله عالم بعلم، وأن علمه غير مخلوق] فيه قضيتين: القضية الأولى: أن الله عالم بعلم.

أي: إثبات الاسم والصفة في وقت واحد.

والثانية: أن علمه غير مخلوق.

قال: [قال الله عز وجل: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:٧].

وقال: {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:٢٥].

وقال: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:٢٥٥].

وقال: {بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:١٦٦].

وقال: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود:١٤].

وقال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر:١١].

وروى ذلك من الصحابة ابن عباس وبه قال من العلماء: الشافعي وأحمد، وإسحاق، وعبد العزيز بن يحيى الكناني، وأحمد بن سنان الواسطي].

قال: [عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق علم الله في خلقه فهم صائرون إليه)]، وإن كان الحديث ضعيفاً إلا أنه يشهد له عدة آثار في ذلك.

ومعنى ذلك: أن علم الله تعالى سابق عن الخلق، ولذلك جاء في صحيح مسلم وغيره أن الله تعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة، فهل يصح في المعقول والمنصوص أن يصدر هذا من غير عالم؟ إن الواحد منا يتصف بالعلم وبالجهل، وأن علمنا حادث؛ لأن المرء يولد جاهلاً، ثم يتعلم شيئاً فشيئاً، وربما تقدم على الشيء وأنت تجهل ماهيته وحقيقته، وكيف يعمل وكيف ينتج وكيف يسير، ثم تتعلم بعد ذلك.

كما لو أنك اشتريت سيارة أو مكينة أو شيئاً من الأشياء وأنت لا تستطيع أن تتعامل معه؛ لأنك جاهل بحقيقة هذا الشيء، ثم تأتي بمعلم ليعلمك على هذا الجهاز أو غيره، ثم بعد أن تتعلم تصير عالماً بهذا الجهاز؟ لأن الله تعالى خلق فيك العلم بعد أن كنت جاهلاً.

أما الله عز وجل فلا يوصف بأنه لم يكن عالماً فصار عالماً، فأما علمي فإنه على قدر بشريتي أعلم شيئاً وأجهل أشياء، وعلمي لهذا الشيء الذي أنا تعلمته وعلمته إنما هو علم حادث.

ومعنى أنه حادث: أنه مخلوق.

وأما علم الله تبارك وتعالى فإنه علم شامل محيط بجميع الخلائق، فهو يعلم تبارك وتعالى ذاته ويعلم أسماءه، ويعلم صفاته كما أنه يعلم كل شيء من خلقه أجمعين.

وأما أنت فعلمك على قدر ما تحتاج وربما أقل مما تحتاج، فلم يدع أحد من الخلق أنه أحاط بكل شيء علماً، أو ادعى صفة من صفات الربوبية إلا أن يكون فرعون، والله تعالى قد كذبه وأهلكه، ولو كان إلهاً كيف يتسنى له أن يموت، مع أن الحياة والقيومية صفتان ذاتيتان لازمتان لله، ولذلك ورد في الأثر: أن امرأة طرقت الباب على فرعون فقال لها: من؟ فقالت وهي بالباب: بئس الإله الذي لا يعرف من في الباب.

أي: أتزعم أنك إله ولا ترى من خلف الباب فكيف ترى الكون؟ ولا ينازع أحد في أن الله تعالى يرى كل كبيرة وصغيرة في الكون، فعلمه محيط، ولو تفكرت في علم الله لوجدت عجباً.

إن الله تعالى يعلم ما في جوفك وما في ظاهرك، وما في جوف الآخرين وظواهرهم، بل وما في جوف السماوات السبع والأرضين السبع وما في ظاهرها، وإن الله تعالى يعلم الموجود، وإن الله تعالى يعلم الغيب ويعلم الشهادة، فعلمه محيط بكل شيء، علم عام وشامل، أما علم المرء فإنه علم قاصر ضعيف حتى في أخص خصوصيات عملك واختصاصك فكثيراً ما تقابل أشياء من صميم عملك فتقول: أنا ما تعلمت هذه القضية، وأنا أجهلها.

إذاً: علم الله تعالى علم لا يقاس به علم، وكذلك سمع الله لا يقاس به سمع، لأنه يسمع كل شيء مهما دق وخفي، فأنت ربما تحدث نفسك بأشياء ومعك جارك أو صديقك أو صاحبك، وربما يقول لك صاحبك: فيم تفكر يا فلان؟ الذي يفكر فيه ذلك المرء يعلمه الله تبارك وتعالى، ويعلم ما هو صائر إليه، ونتيجة هذا التفكير الذي لا يعلمه العبد إنما يعلمه الله؛ فإن الله تبارك وتعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض وقبل أن يخلق هذا العبد علم أن عبده فلان