للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[القول الراجح في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء والمعراج]

وأما الرؤية فالذي ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال: (رأى محمد ربه بفؤاده مرتين).

وهذا تخصيص من ابن عباس أن الرؤية كانت بالفؤاد والقلب، فلم يصرح بل ولم يجسر أحد أن يروي عن ابن عباس تصريحه بأنه رأى ربه بعيني رأسه، في الوقت الذي نجد التصريح الصحيح عن ابن عباس أن هذه الرؤية كانت بالفؤاد مرتين.

وعائشة أنكرت الرؤية، فمن الناس من جمع بينهما فقال: عائشة أنكرت رؤية العين، وابن عباس أثبت رؤية الفؤاد، فهل بعد هذا التوفيق يكون هناك تعارض بين قول ابن عباس وقول عائشة؟! فلابد أن نصدق عثمان بن سعيد الدارمي في أن الصحابة أجمعوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعيني رأسه.

فالرؤية في معتقد ابن عباس كانت بالفؤاد وليست بعيني الرأس، وهذا المذهب لـ ابن عباس يوافق مذهب جماهير الصحابة في إثبات الرؤية بالفؤاد لا بالعين.

وتارة يقول: رأى محمد ربه، وتارة يقول: رآه محمد عليه الصلاة والسلام، ولم يثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما لفظ صريح بأنه رآه بعينه.

وكذلك الإمام أحمد تابع لـ ابن عباس في ذلك، والإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله مذهبه أثري حديثي يلتزم بالنص الوارد، وأنت تجد أن أهل العلم يفتون على قواعد أصولية، ويفتون على استنباطات اجتهادية، وكذلك أحمد بن حنبل، ولكن أحمد قال: إذا بلغك الأثر فاعمل به ولو مرة؛ تكن من أهله.

ولذلك لو نظرنا إلى كلام أهل العلم في صلاة الضحى مثلاً لوجدنا لهم قولاً واحداً، ولـ أحمد أقوال: ركعتان، وأربع ركعات، وست، وثمان، واثنتا عشرة ركعة، لماذا؟ لأن كل عدد من هذه الأعداد جاء به نص، فتارة يفتي بهذا الحديث، وتارة يفتي بغيره، وتارة يفتي بالثالث حتى يستوعب ما ورد في المسألة من أقوال وآثار عن السلف.

فـ أحمد بن حنبل قال مرة: رأى محمد ربه، فحمل بعض الناس هذا الإطلاق في كلام أحمد كما حملوه في إطلاق ابن عباس، فقالوا: قصد أحمد أنه رآه بعيني رأسه، وليس الأمر كذلك، بل ورد كلامه مقيداً.

فالإمام أحمد تارة يطلق الرؤية، وتارة يقول: رآه بفؤاده كما قال ابن عباس، والذي قلناه في تأويل كلام ابن عباس نقوله في تأويل كلام أحمد بن حنبل، ولم يقل أحد من الحنابلة أو من غيرهم: إنه سمع أحمد يقول: رآه بعينه، لكن طائفة من أصحابه سمعوا بعض كلامه المطلق ففهموا منه رؤية العين، كما سمع بعض الناس مطلق كلام ابن عباس ففهموا منه رؤية العين، وهذا الفهم لا عبرة به، وليس في الأدلة ما يقتضي أنه رآه بعينه، يعني: ليس هناك دليل يدل لا من قريب ولا من بعيد على أن الرؤية كانت بالعين، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة، بل ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدل، أي: أن النصوص الصحيحة تنفي أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه بعيني رأسه؛ لإثباتها أن هذه الرؤية بالفؤاد مرتين، كما في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: (سألت النبي عليه الصلاة والسلام: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه؟).

فالمسألة هذه مسألة اعتقادية عظيمة جداً، فلو كانت الرؤية قد ثبتت للنبي عليه الصلاة والسلام بعيني رأسه فما الذي يمنعه أن يصرح بها وأن يبينها بياناً كافياً؛ حتى لا تختلف الأمة، خاصة وأن النبي عليه الصلاة والسلام قد بين ما هو دونها بمراحل كثيرة جداً، وقد قلنا في باب الرؤية في الآخرة: إن الأحاديث قد تواترت في إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، فأيهما أعظم وأجل قدراً: رؤية النبي عليه الصلاة والسلام ربه بعيني رأسه في الدنيا، أم رؤية المؤمنين ربهم بأعين رءوسهم في الآخرة؟ بلا شك أن رؤية النبي عليه الصلاة والسلام أعظم، مع أننا نجد أن المسألة في رؤية المؤمنين لربهم ثابتة بطريق التواتر، يعني: ورد في الرؤية عدة أحاديث عن كثير من الصحابة، في الوقت الذي لا نجد نصاً واحداً يثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه بعيني رأسه.

وقال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:١]، ولو كان الله تعالى قد أراه ذاته العلية بعينه لكان ذكر ذلك أولى، فالنبي عليه الصلاة والسلام في رحلة الإسراء والمعراج رأى من آيات ربه العظمى، وأعظم آية أن يرى ربه، فلا يتصور أن الله تبارك وتعالى يذكر الآيات الصغرى ولا يذكر الآية الكبرى العظمى وهي الرؤية، فلو كان رأى ربه