للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ما روي من أحاديث مكذوبة تفيد رؤية الله في الدنيا من الرسول وغيره]

وسئل ابن تيمية عن بعض الأحاديث التي وردت في صفات الله تبارك وتعالى، والتي ليس لها وجود في دواوين السنة، وأنها في الغالب كذب وبهتان؛ فقال ابن تيمية: بل هي كفر شنيع.

قال: وقد يقولون: من أنواع الكفر ما لا يروون فيه حديثاً، مثل حديث: (إن الله ينزل عشية عرفة على جمل أورق يخاطب ويعانق المشاة!)، وهذا أمر مخل جداً بجناب الإله تبارك وتعالى، ومعنى أنه يعانق المشاة ويصافح الركبان: أن الركبان فوق مرتبة الإله، وصور الإله وكأنه رجل يعانق المشاة؛ لأنه بمحاذاتهم وموازاتهم! قال: وهذا من أعظم الكذب على الله ورسوله، وقائله من أعظم القائلين على الله غير الحق، ولم يرو هذا الحديث في أحد دواوين السنة، ولم يروه أحد من علماء المسلمين أصلاً، بل أجمع علماء المسلمين وأهل المعرفة بالحديث على أنه مكذوب على رسول الله عليه الصلاة والسلام.

وقال أهل العلم كـ ابن قتيبة وغيره: هذا وأمثاله إنما وضعه الزنادقة الكفار والملاحدة؛ ليشينوا به على أهل الحديث؛ حتى يقال: إنهم يروون مثل هذا.

يعني: يحاولون بقدر الإمكان أن يشوهوا صورة المحدثين، فيقال: هؤلاء هم المحدثون الذين تأخذون عنهم دينكم، يروون أن الله ينزل في عشية عرفة راكباً جملاً، ويصافح الركبان، ويعانق المشاة، وعند ذلك تفقد الثقة في الرواة.

وكذلك يروون حديثاً آخر فيه: (أنه رأى ربه حين أفاض من مزدلفة -يعني: هو نازل من مزدلفة أفاض منها إلى منى- يمشي أمام الحجيج وعليه جبة صوف)، أو ما يشبه هذا البهتان والافتراء على الله الذي لا يقوله من عرف الله ورسوله.

وهكذا حديث: (إن الله يمشي على الأرض)، فإذا كان هناك موضع خضرة قالوا: هذا موضع قدميه، ويقرءون قوله تعالى: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:٥٠]، وهذا أيضاً كذب باتفاق العلماء، ولم يقل الله: فانظر إلى آثار خطى الله، وإنما قال: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الروم:٥٠]، ورحمته هنا النبات.

وهكذا أحاديث في بعضها: (أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه في الطواف) أي: رأى ربه وهو يطوف حول الكعبة، وفي بعضها: (أنه رآه وهو خارج من مكة)، وفي بعضها: (أنه رآه في بعض سكك المدينة).

قال: وكل حديث فيه: أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه في الأرض فهو كذب باتفاق المسلمين وعلمائهم، فهذا شيء لم يقله أحد من علماء المسلمين، ولا رواه أحد منهم.

وإنما كان النزاع بين الصحابة في أن محمداً عليه الصلاة والسلام هل رأى ربه ليلة المعراج؟ فكان ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر علماء السنة يقولون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج، والنصوص واردة عن معظم علماء السنة أنه رأى ربه ليلة المعراج، لكن لم يقولوا: بعيني رأسه.

وكانت عائشة رضي الله عنها وطائفة معها ينكرون ذلك، ولم ترو عائشة رضي الله عنها في ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً، ولا سألته عن ذلك، ولا نقل في ذلك عن الصديق رضي الله عنه، كما يرويه ناس من الجهال أن أباها سأل النبي عليه الصلاة والسلام: هل رأيت ربك؟ فقال: نعم.

وقال لـ عائشة: لا، فـ عائشة لما سألته نفس

السؤال

هل رأيت ربك؟ قال: لا، ولما سأله أبوها: هل رأيت ربك؟ قال: نعم.

هذا لا يتصور صدوره من النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك فهذا الحديث كذب باتفاق العلماء، قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.

وذكر القاضي أبو يعلى وغيره: أنه اختلفت الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله: هل يقال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه، أو يقال: بعين قلبه، أو يقال: رآه؟ وأصح رواية فيها أنه قال: رأى ربه وسكت، والرواية الثانية: رأى ربه بعين فؤاده، أو قال: بعين قلبه.

وكذلك الحديث الذي رواه أهل العلم أنه قال: (رأيت ربي في صورة كذا وكذا) وهو المعروف عند أهل العلم بحديث: اختصام الملأ الأعلى، رواه أحمد بن حنبل، والدارمي في سننه، وليس في أحد من دواوين السنة الأصيلة إلا في هذين.

قال أحمد: حدثني عبد الرزاق أنبأنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني ربي عز وجل الليلة في أحسن صورة -يعني: في النوم- فقال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ -وهم الملائكة- قال: لا يا رب!).

الشاهد من هذا الحديث: (أتاني ربي في أحسن صورة وأنا نائم).

إذاً: فرؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه ثابتة له في الدنيا، لكن رؤية منام لا رؤية حقيقية، ورؤى الأنبياء حق، فهذه الرؤية كانت منامية، ولم تكن بعين رأسه على الحقيقة.

(