للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان أن الأعمال بالخواتيم]

وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس) أي: أنه يعمل الطاعات، لكنه في هذه الطاعات لم يكن مخلصاً فيها لله عز وجل، وإنما يعملها رياء ونفاقاً، كما كان عبد الله بن أبي ابن سلول يصلي، ويصوم، ويزكي، وكان أيضاً يجاهد مع النبي عليه الصلاة والسلام، لكن كان قلبه مليئاً بالكفر، وأما عمله في الظاهر فيما يبدو للناس فعمل رجل من أهل الجنة.

وهناك رجل حارب حرباً شديدة جداً، وقاتل قتالاً عنيفاً جداً، حتى أُعجب الصحابة بفدائيته وفروسيته، فقالوا: إنه من أهل الجنة، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (والله إني لأراه من أهل النار) فاندهش الصحابة حينما رأوه يعمل بعمل أهل الجنة، فلم يجدوا فارساً في الجيش فعل مثل ما فعل! ففزعوا كيف يكون من أهل النار مثل هذا الرجل؟! فتبعه رجل فكلما أسرع أسرع خلفه، وكلما وقف وقف، فكان يراقبه حتى أصابه سهم فلم يصبر على ألمه، فقتل نفسه، وضع ذبابة سيفه في صدره، واتكأ عليها فخرجت من ظهره، فحينئذ قال هذا الرجل للنبي عليه الصلاة والسلام: لقد فعل بنفسه كذا وكذا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله)، فهذا الرجل عمل في الظاهر بعمل أهل الجنة، ولكنه في نفسه من أهل النار.

وأول من تسعر بهم جهنم ثلاثة: العالم، والجواد، والمقاتل، فحينما ينادون للجهاد يخرج هذا المجاهد أول واحد، ويحضر إلى الصف بفرسه، والعالم تعلم العلم لغير الله عز وجل ليقال عالم، فيؤمر به فيُسحب على وجهه فيدخل النار، والجواد لا يترك باباً من أبواب الخير إلا وينفق إليه، وهذا عمل صالح، لكنه لا ينوي بهذا وجه الله، وإنما يبتغي المدحة والثناء من الناس، والذي يصلي رياءً لو تركته في خلوة لا يصلي، وإذا حضر الناس تجده في خشوع وقيام وسجود وركوع ويطيل في ذلك، فتقول: ما أعبده! وما أخشعه لله عز وجل! وفي الحقيقة هذا خشوع للبدن، وليس خشوعاً في القلب لله عز وجل، أي: أن خشوعه اصطنعه لأجل أن يقال: خاشع أو عابد أو غير ذلك.

ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة)، لكن قد تلحقه التوبة، ولا حرج على فضل الله عز وجل، ولو أن رجلاً أشرك وكفر وأتى بجميع المعاصي، ومات بعد أن نطق بالشهادة بلحظة؛ فهو لم يصل ولم يصم ولم يزك ولم يحج، ولم يأت طاعة إلا نطقه بكلمة التوحيد، فإنه يدخل الجنة، فلا حرج على فضل الله عز وجل، فهذا له سبحانه وتعالى {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣]، ولو كانت لك وأخذها أحد الناس منك فإنك لا ترضى بذلك، أما وهي لله عز وجل فله الحق حينئذ أن يعطيها لمن يشاء.

قال: وزاد البخاري: (إنما الأعمال بالخواتيم) أي: حسب ختام الله لك.

وهذا الكلام يجعلنا في غاية الوجل والخوف، والنبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: (والله لا يغفر الله لفلان! فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وصعد المنبر وقال: من ذا الذي يتألى على الله؟) أي: أن الجنة ملك لله فلا يدخل فيها إلا رجل قد أذن الله له، (قال الله تعالى: أشهدكم يا عبادي أني قد غفرت لفلان، وأني عذبت فلاناً) وهو المطيع.

ومن هنا تعلم قولهم: رب طاعة أدخلت صاحبها النار، ورب معصية أدخلت صاحبها الجنة.

أي: أن رجلاً مثلاً صلى صلاة، وظل يفاخر بها، أو حج ولم يجد الناس يكتبون على الحيطان: حج مبرور وذنب مغفور، مبروك يا حاج فلان وغير ذلك فتجده يغضب غضباً شديداً حين لم يُكتب له مثل هذا، وأنه حينما دخل البلد لم يجد استقبالاً على عادة الناس، وظل يسب دين البلد بأكمله، مع أنه قد أتى من الحج، فالذي يقول له: يا عم أحمد أو يا سيد أحمد لا يرد عليه، وإذا أجابه إنما يقول: نعم يا بني! فهل يتصور أن العمل هذا ممكن يُقبل؟! لا يُقبل أبداً، نسأل الله السلامة، والأعمال بالخواتيم.

وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل إليه الملك -وهو ملك الأرحام وليس جبريل- فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات -أي: يؤمر بكتابة أربع كلمات-: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد)، أي: من أهل النار أم من أهل الجنة، فهذا مكتوب عليك قبل أن تولد، وليس في هذا ظلم للعبد؛ لأن الله تعالى منزه عن الظلم، ومتصف بالعدل والحكمة.

(فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عل