للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[منشأ الضلال عند القدرية]

ومنشأ الضلال عند القدرية والمعتزلة أنهم سووا بين المشيئة والإرادة من ناحية، وبين المحبة والرضا من ناحية أخرى، وقالوا: إن الله تعالى لا يفعل شيئاً، أو لا يأذن في شيء، أو لا يشاء شيئاً إلا إذا أحبه ورضيه، ولذلك تساوى الجبرية والقدرية، ثم اختلفوا: فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، أي: أن كل ما يقع في الكون بقضائه وقدره، وهو محبوب مرضي لله، أي: أن المعاصي محبوبة لله عز وجل وإلا لم يأذن في وقوعها، ويلزم من قولهم: أن الله عز وجل يحب الزنا، وشرب الخمر، والقتل؛ لأنه لا يقع في الكون إلا ما أراد وقدر، ولا تكون إرادته وقدره إلا متعلقاً بالمحبة والرضا.

وسموا بالجبرية: لأنهم قالوا: إن الفاعل الحقيقي للفعل هو الله، والعبد لا علاقة له بالفعل؛ لأنه مجبور، أي: أن العبد كالحمار أو الجاموسة التي تسحبها من خطامها، ولا قدرة لها على الانفكاك، فقالوا: إن العبد يساق إلى المعاصي كما سيق إلى الطاعات، فهو مجبور على فعل الطاعات، ومجبور على فعل المعصية؛ فالله قد جبره على فعل ذلك، فالعبد ليس عليه ذنب، وليس عليه إثم.

فلا يثاب على طاعته، ولا يأثم على معصيته؛ لأنه مجبور، وهذا فساد، وأنا لا أقول هذا القول وأقرره، وإنما أرد عليه وأُبين عوار هذا المعتقد.

وهناك نوع آخر من القدرية وهم نفاة القدر، ويقولون: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فالمعاصي لا يحبها الله ولا يرضى عنها، فليست مقدرة ولا مقضية، أي: أن الله لم يأذن في وقوعها، وإنما أذن في وقوعها العبد.

وقال قوم: إن الله يحب المعاصي؛ لأنه أذن في وقوعها، وجبر العبد على ذلك، وهؤلاء هم الجبرية المثبتة، أي: الذين يثبتون الجبر، وهو أن العبد مجبور على فعله الطاعة والمعصية، وإذا كان مجبوراً فلا يثاب على طاعته، ولا يأثم على معصيته؛ لأن الفاعل الحقيقي هو الله.

ومع هذا إلا أن عندهم وجه حق وهو: أن كل شيء من عند الله، أي أن الله تعالى أذن في وجوده وخلقه، لكنهم يقولون: إن العبد مجبور على ذلك، فلا ثواب له على طاعة، ولا عقاب عليه على معصية.

والجبرية النفاة قالوا: إن المعاصي لا يحبها الله ولا يرضى عنها، وهذا الكلام صحيح، لكن الغلط في قولهم: إنها ليست مقدرة ولا مقضية، أي: أنها وقعت في الكون بغير قضاء الله وقدره، ولكن بقضاء العبد، وهذه المصيبة السوداء التي نريد أن نعالجها.

وقد دل على الفرق بين المشيئة والمحبة الكتاب والسنة، بل والفطرة الصحيحة، فنصوص الكتاب في المشيئة والإرادة مثل قوله تعالى في المحبة والرضا: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:٢٠٥]، وقوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:٧].

لكن الفساد واقع بإذن الله، بمعنى: أن الله تعالى أذن في وجوده وفي خلقه في الكون، وكذلك الكفر، وقال تعالى عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:٣٨]، أي: أن الله يكره هذه الأفعال كلها، وفي الصحيح: (إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).

إذاً: فالله يكره هذه الأشياء، وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك)،وغير هذا من الكلام الجميل المتين الذي تكلم فيه أهل العلم، ولولا الإطالة لذكرت بقية كلامهم.