للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رواية ابن بريدة لحديث ابن عمر في إنكاره على القدرية]

قال: [عن ابن بريدة قال: قدمنا المدينة فأتينا عبد الله بن عمر فقلنا: يا أبا عبد الرحمن إنا بأرض قوم يزعمون أن لا قدر.

فقال: من المسلمين هم؟ ممن يصلي إلى القبلة؟ قلنا: نعم ممن يصلي إلى القبلة.

قال: فغضب حتى وددت أني لم أكن سألته.

ثم قال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أن عبد الله بن عمر منهم بريء وأنهم منه براء].

أي: أنهم ليسوا مني ولست منهم، ومعنى هذا أنهم ليسوا من المسلمين، ولا المسلمين يمتون لهم بصلة، فالحبل الذي بينهم قد انقطع، ولذلك إجمع الصحابة على أن من تكلم في القدر كافر خارج عن ملة الإسلام وخاصة هؤلاء الغلاة.

[ثم قال: إن شئت حدثناك عن النبي عليه الصلاة والسلام.

فقلت: أجل.

قال: (كنا عند النبي عليه الصلاة والسلام فأتاه رجل حسن الثياب طيب الريح حسن الوجه.

فقال: السلام عليكم يا رسول الله.

قال: وعليك.

قال: يا رسول الله أدن منك؟ قال: ادن.

فقلنا: ما رأينا كاليوم رجلاً أحسن ثوباً ولا أطيب ريحاً ولا أحسن وجهاً ولا أشد توقيراً للنبي عليه الصلاة والسلام.

ثم قال: يا رسول الله أدن منك؟ قال: نعم.

فدنا منه نبذة)].

أي: اقترب منه اقتراباً، وكلمة (نبذة) تفيدنا فائدة وهي: أنه لم يقترب منه حتى لزق ركبته إلى ركبته، ولذا إذا قال بعد ذلك: حتى وضع كفيه على فخذيه، فيكون الذي وضع كفيه على فخذيه هو جبريل؛ لأنه لم يلزق فيه لزوقاً، وإنما دنا منه نبذة.

أي: اقترب منه شيئاً يسيراً.

قال: [(فقلنا مثل مقالتنا.

ثم قال الثالثة: أدن منك يا رسول الله؟ قال: نعم.

فدنا حتى ألزق ركبته بركبة النبي عليه الصلاة والسلام.

فقال: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، وتغتسل من الجناية.

قال: صدقت.

قال عمر: (فقلنا ما رأينا كاليوم رجلاً كأنه يعلم رسول الله، -أي: كأنه هو الذي يعلم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ليس جاهلاً، ثم تبين بعد ذلك أنه فعلاً معلم- ثم قال: وما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر والملائكة، والكتاب، والنبيين، والقدر كله خيره وشره، حلوه ومره)].

إذاً: كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس والمعاصي، لكن الذي قدر المعاصي على العبد قدر لها عقوبة وحداً، فتكون المعصية بقدر الله، ويكون الحد أو العقوبة بقدر الله.

[قال: (صدقت.

فقلنا: والله ما رأينا كاليوم قط فوالله كأنه يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: ما المسئول بأعلم بها من السائل.

ثم انصرف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علي بالرجل -أي: اتبعوا هذا الرجل- قال عمر: فقمنا بأجمعنا نطلب الرجل فطلبناه فلم نقدر عليه)].

لأنه بمجرد ما إن خرج من المسجد وغاب عن أعين الناس رجع إلى طبيعته التي خلقه الله عليها، وحجب عن الصحابة، فهو يراهم لكنهم لا يرونه.

وتأمل حينما قال لهم: علي بالرجل.

لم يعتذر أحد منهم؛ لأنه أمر.

[فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (هذا جبريل جاء ليعلمكم دينكم، وما أتاني في صورة إلا عرفته قبل مرتي هذه)].

أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما عرف أنه جبريل إلا بعد أن ولى.

وهناك أمارة أيضاً في صدر الحديث تقول: إن هذا الرجل ليس عادياً، حيث أن عمر يقول: (بينما نحن جلوس عند النبي عليه الصلاة والسلام إذ طلع علينا رجل).

ولم يقل إذ خرج علينا رجل، وهذا لا تنطبق على الرجال العاديين.

قال: (شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر).

أي: لا غبار عليه ولا تراب، فهو غريب عن المدينة، والمدينة كلها إنما هي عدة البيوت بين جبلين (لا يعرفه منا أحد، ولا يُرى عليه أثر السفر)، أي: أن هذا الرجل إما أنه أتى من الأرض أو أنه أتى من السماء؛ لأنه لو كان من المدينة لعرفناه، وهذا لم يعرفه منا أحد، ولو كان جاء من سفر لكان عليه أثر السفر، فليس في هذا الرجل أي علامة تدل على أنه أتى من سفر، إذاً فلا بد أن يكون رجلاً غير عادي.

وفي هذا أيضاً: جواز أن يرى المسلم أو المؤمن الملائكة، لكن على غير صورتهم التي خلقهم الله عز وجل عليها، فقد خلق الله جبريل له ستمائة جناح، والجناح الواحد يسد الأفق.

أي: أنك حين ترى جهة السماء لن ترى الشمس ولا النجوم ولا القمر، بل لن ترى شيئاً أبداً؛ بسبب جناح جبريل.

مع أنه لا يمكن أن تتصور مخلوقاً له ستمائة جناح، فإذا كان هذا جبريل فما بالك برب جبريل؟! لا يمكن لأحد أبداً، ولا يسمح له ولا يجاز له في أن يطلق خياله لأن يتصور الذات العلية سبحانه وتعالى.