للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[بيان أهمية الوسع في الإنفاق]

وموقع المال مسألة لا تهم، إذا اجتهد الإنسان وبذل جهده، فقد يقع في قرابة وقد يقع في غير قرابة، فهو مأمور بأن يجتهد في وضع ماله، والمهم هو إخراج الدنيا من القلوب، وليس معنى ذلك أن يأتي الإنسان إلى شيء يقتات به وعياله ثم ينفقه كما نسمع بين الحين والآخر، فإن هذا قد يكون في بعض الأحايين مخالفاً للصواب، قال الله جل وعلا {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء:٢٩ - ٣٠].

فالإنفاق هو أن ينفق الإنسان من أحب ما لديه، ولكن ينظر الإنسان نظرة توازن في أهله وذويه وأبنائه والذين لهم حق عليه، والناس في هذا يختلفون اختلافاً جذرياً، فمنهم من يستطيع أن يعوض، ومنهم من لا يستطيع أن يعوض، بمعنى أن هناك من لو أنفق ماله وذهب يقترض لا يقرضه أحد، فهذا لو أنفق ماله كله لأصبح أشد ممن أنفق عليهم، ولا يقول بهذا عاقل.

ولكن قد يوجد إنسان له جاه وله قدرة على أن يستدين، إذ يحبه الناس لكونه معروفاً كإمام مسجد أو خطيب أو مدير أو موظف كبير، فهذا لو أعطى ماله كله فإنه يستطيع أن يعوضه، فلو أنفق اليوم ماله كله غداً فإنه قد يكسب شيئا آخر، وعلى هذا يحمل ما فعله الصحابة.

ولا يأتي إنسان ليقول: إنَّ أبا بكر أنفق ماله كله! فـ أبو بكر قد أنفق ماله كله، ولكن أبا بكر كان تاجراً، فما ينفقه اليوم يعوضه غداً.

وقد نسمع أحياناً في بعض الحملات كالحملة للانتفاضة أو غيرها بأن إنساناً لا يملك إلا السيارة التي ينقل عليها الماء، ويسميها العامة الوايت، فلما تبرع بها قال: يعلم الله أنني لا أملك غيرها، وبها أقتات لأبنائي، ثم قال: جعلتها في سبيل الله! فهذا ليس بحق وليس برشد وليس بعقل، فنسأل الله أن يتقبل منه، ولكن هذا أمر لا يقبل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت).

فهذا الرجل إذا أمسى وأبناؤه لا يجدون طعاماً في ظل هذا الزمن الذي يحتاج الناس فيه إلى الدينار والدرهم، كره أبناؤه الدين؛ لأنهم يشعرون أن الدين هو السبب في إنفاق المال كله.

والمقصود أن الإنسان يتبع السنة بفهم للسنة، لا بفهمه هو، فـ أبو طلحة رضي الله عنه رجل غني رجل ثري، وكان من ماله بستان بجوار المسجد هو أحب ماله إليه، فماله كثير، ولكن هذا كان أحب ماله إليه، كإنسان عنده مزرعة وعنده قصر أفراح وعنده عمارات، فأحب ماله إليه هو المزرعة أو قصر الأفراح، فإن تصدق بقصر الأفراح، أو تصدق بعمارة، أو تصدق بالمزرعة فقد طبق السنة.

أما أن يأتي إنسان لا يملك شيئاً، أو لا يملك إلا راتبه، وقد لا يأتيه الراتب أحياناً، أو كان موظفاً في شركة فمرة يُثَبتَّ ومرة لا يُثَبتَّ، ثم يأتي فيقول: أنفقت مالي كله لمؤسسة كذا أو لجمعية كذا أو لسبب كذا، فهذا غير صحيح، فالإنسان إذا كان راشداً عاقلاً لا يتكلف مفقوداً ولا يرد موجوداً، ويمشي بخطى، والله أعلم بما في صدور العالمين، ولا حاجة إلى أن يري الناس ما تصنع.

فنقول عموماً: إن الإنفاق من أعظم أسباب حصول الخير، ولكن بضوابطه الشرعية، وكلما كان في السر كان أبلغ وأعظم، فقد قال عليه الصلاة والسلام لما ذكر السبعة: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).

وليست العبرة بالكثرة، بل العبرة بأن يصيب مال الإنسان ذا فاقة، وإذا كان ذا قرابة كان أولى وأحرى؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أبا طلحة بأن يضع ماله في قرابته، فوضعها -كما بينا- في حسان وأبي بن كعب رضي الله عنهم أجمعين.

هذا هو المعنى الإجمالي للآية.

<<  <  ج: ص:  >  >>