للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[بيان معنى الوفاة]

قال تعالى: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:١١٧].

قوله: (توفيتني) فيه نوع من الإشكال؛ لأن عيسى عليه السلام ليس بميت، وإنما رفع إلى السماء، قال الله جل وعلا: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:١٥٨]، وعندما تريد أن تفسر أمسك أصلك، فإذا جاء شيء يعارض الأصل فرد العارض وابق على الأصل، ولا تنتقل عنه إلا بعارض يفوق الأصل، وفي حياتك في أمر دين أو في أمر دنيا أمسك أصلك، ولا تترك الأصل لأي عارض أو لأي شبهة، ولو لم تفهم العارض.

فالله جل وعلا تكلم عن عيسى في سورة النساء وقال: إن اليهود زعمت أنها قتلته، وقال جل وعلا: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء:١٥٧] ثم قال: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} [النساء:١٥٧ - ١٥٨]، فالله يقول في كتابه: إنه رفع عيسى، فلما تأتي آية فيها أنه توفى والله يقول: إنه رفع لا تجتمع وفاة مع رفع، فنبقي على الأصل الذي هو الرفع، ونقول: إن الوفاة هنا بمعنى الرفع، فقوله: (توفيتني) يعني: استوفيت بقائي معهم ثم رفعتني، لكي نبقي على الأصل، ومن أخذ بهذه القاعدة فإنه يسلم في أمر دينه وأمر دنياه؛ لأنه ليس كل شبهة تستطيع أن تردها، فلو وجدت شبهة لا تستطيع أن تردها فابق على الأصل حتى يمن الله عليك بعالم تسأله عن هذه الشبهة فيردها، أما أن تمسك بكل شبهة تأتيك فتأخذ بها فإن الشبه لا تنتهي، وستصل إلى ما لا نهاية، فتتخبط بك الطرق كما هو حاصل في بعض ممن ينتسبون إلى العلم، فيتخبط أحدهم ميمنة وميسرة لأنه لا يوجد أصل يقبض عليه ويمسك به.

فالأصل -مثلاً- في المؤمن أنه من قال: (لا إله إلا الله)، فإخراجه من الملة يحتاج إلى أصل أعظم من هذا، ولا يوجد ذلك حتى يفرح هو بالكفر، فإذا قال: أنا كافر فقوله يهدم الأصل، لكن إذا فعل أفعالاً خلاف في أنها كفر ولم يرض بها فليس لك ولا لغيرك أن يكفره بمثل هذه الشبهات.

وهذا الذي وقع فيه من وقع في أيام الصحابة لما كفر علياً وكفر عثمان وكفر غيرهما فضل بهذا الطريق، فلا يمسك أصلاً، فكلما جاءته شبهة طبقها على الناس.

ويروى عن الذين خاصموا علياً أنهم مروا على شجرة ليهودي فيها بلح وهم جياع، فقالوا: هذه شجرة يهودي، وهو ذمي مستأمن، فلا يجوز لنا أن نأخذ منها.

وبعد قليل جاء عبد الله بن خباب بن الأرت فقالوا: تقول في عثمان وعلي؟ فقال: صحابة أخطئوا في أشياء وأصابوا في أشياء، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومردهم إلى الله، فقالوا: إن هذا الذي في صدرك -يعنون القرآن- يأمرنا بقتلك؛ لأنك ما قلت الحق! وعلي حكم الرجال في دين الله، والله يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:٥٧] فأصبح علي كافراً وأنت لا ترى أن علياً كافر، فأنت كافر؛ لأن من لم ير كفر الكافر فهو كافر.

فانزلوه من فوق ظهر ناقته ومعه زوجته وابنه، ثم ذهبوا به إلى نهر دجلة الذي في العراق وذبحوه على النهر وسال دمه على النهر واليهودي ينظر، فقال: والله ما رأيت أجهل منكم! أتمتنعون عن التمر وتقولون: أكله حرام وإنما هو شيء من بلح ثم تأتون إلى رجل من أتباع دينكم يقول: لا إله إلا الله فتذبحونه كما تذبح الشاة وتقولون: هذا يجوز؟! فالعاقل في كل شئون حياته يمسك الأصل ويتمسك به، وليس سهلاً أن تهدم الأصل؛ لأن هذا الباب لو دخلت فيه لا تنتهي.

وأذكر أنني تأخرت يوماً عن الصلاة، فصلى شخص بدلاً عني، فدخل رجل فرأى رجلاً ساجداً على أمشاط أصابعه لا على الأطراف، فرآه رجل فأخذ بيدي وقال: انظر كيف يصلي! فالسجود على الأعضاء السبعة، وهذا ما سجد على الأعضاء السبعة! فهذه الفتوى المركبة معناها أن السجود غير صحيح، والسجود ركن من أركان الصلاة، فصلاته غير صحيحة، فكأنه ما صلى، والرسول يقول: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، فصار بذلك كافراً، وقعد يقول: سبحان ربي الأعلى سبحان ربي الأعلى، اللهم اغفر لي! فعقلك لا تعطيه لغيرك، واحفظ لسانك عن أعراض المسلمين من عالم أو حاكم أو أمير أو وزير أو صغير أو كبير، ففي النقاش العلمي ناقش كما تشاء، فالعلم حق مشاع، ولكن الإخراج من الملة والإدخال في الملة ليس لأحد، فالله يقول: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل:١٠٦].

يقول تعالى عن عيسى عليه السلام: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} [المائدة:١١٧]، وقلنا: إن الوفاة هنا بمعنى الرفع، والوفاة في كتاب الله تأتي بمعنى الموت وانقضاء الأجل، ومنه قول الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:٤٢] أي: حين انقضاء أجلها، وتأتي بمعنى النوم، قال الله جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} [الأنعام:٦٠]، وتأتي بمعنى الرفع، كما في الآية التي بين أيدينا: (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) أي: رفعتني {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:١١٧]، ولا ريب في أن الله على كل شيء شهيد.

<<  <  ج: ص:  >  >>