للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تأملات في معنى قوله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده)]

إن الله تبارك وتعالى اعتنى بنبيه صلى الله عليه وسلم أعظم عناية، يقول عليه الصلاة والسلام: (إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمجندل في طينته) ومن عناية الله بنبيه أن الله جل وعلا ما زال ينقله في أصلاب الرجال وأرحام النساء في نكاح غير سفاح حتى اختاره من خير الناس فبُعث صلى الله عليه وسلم من أعزِّ قبيل: وهم بنو هاشم آله صلوات الله وسلامه عليه، واصطفاه على بني هاشم، ثم ما زال الله يعتني به قبل أن ينبأ كما هو معلوم في السيرة، ثم نبئ صلوات الله وسلامه عليه بإقرأ وأرسل بالمدثر، فما زال الله يحيطه بعنايته وكمال حفظه حتى فقد عليه الصلاة والسلام النصير الداخلي والخارجي: فقد النصير الداخلي من الخلق وهي زوجته خديجة، والنصير الخارجي وهو عمه أبو طالب، ثم توجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعو أهلها فرده أهل الطائف، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى مكة.

والمقصود أنه لما نزل صلى الله عليه وسلم مكة وهو في هذا الوضع من صدود أكثر الناس عنه إلا قلة من أصحابه تولاه الله جل وعلا فكانت رحلة الإسراء والمعراج.

فمن جملة عناية الله جل وعلا به أن أسرى الله جل وعلا به في برهة من الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهذه الرحلة في الملكوتين العلوي والسفلي كانت رحلة عظيمة له صلى الله عليه وسلم، ومن خصائصه التي منّ الله جل وعلا بها عليه أن هذه الرحلة وقعت ليلاً، وفي هذا دلالة على شرف الليل، فالليل أفضل من النهار من حيث الإجمال؛ لأن الله أسرى بنبيه ليلاً، ونجَّى لوطاً وبنتيه ليلاً، قال تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر:٣٤]، وأسرى بموسى وقومه من الصالحين ليلاً، قال تعالى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الدخان:٢٣]، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصلوات أي النوافل فقال: (وصلاة الرجل في جوف الليل الآخر) ثم تلا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:١٦ - ١٧] الشاهد من هذا أن الليل أفضل وأشرف من النهار، على أن لله أعمالاً في الليل لا يقبلها في النهار، وأعمالاً في النهار لا يقبلها جل وعلا في الليل.

الفائدة الثانية: أن الله تبارك وتعالى أمر جبريل عليه السلام بغسل قلب النبي صلى الله عليه وسلم بماء زمزم قبل رحلة الإسراء المعراج، وهذا الغسل ليس غسلاً معنوياً فقط وإنما غسل حسي، فقد شق صدره صلى الله عليه وسلم وأخرج قلبه ووضع في طست (في إناء) وهذا الإناء فيه ماء زمزم فغسل قلبه صلى الله عليه وسلم بماء زمزم ثم أعيد إلى مكانه، ولا ريب أن هذا ثابت عنه صلى الله عليه وسلم وإن رده العقل، لكن يثبته النقل، والنقل الصحيح مقدم على العقل فالعقل تبع للنقل وليس حاكماً عليه، فنقول: آمنا بالله وبما جاء عن الله وعلى مراد الله، وآمنا برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله؛ والمقصود أننا نثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل قلبه بماء زمزم غسلاً حسياً، وهذا يدلنا على فائدة أخرى وهي قضية فضل ماء زمزم، فنقول: إن هذا الماء ماء مبارك، والنبي صلى الله عليه وسلم نقل عنه أنه قال: (ماء زمزم لما شرب له) وقد صحح فريق من المحدثين هذا الحديث أو حسنوه، وعمل الفضلاء من العلماء يدل على صحته وعلى الأخذ به، وقد روي أن الإمام العالم المجاهد عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى لما حج وأتى البيت ذكر الحديث المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم في ماء زمزم فقال: اللهم إن فلان حدثني وساق السند أن نبيك صلى الله عليه وسلم يقول: (ماء زمزم لما شرب له) وأنا أشربه لعطش يوم القيامة.

وبعض الفضلاء من العلماء يقول: إن السنة في شرب ماء زمزم أن يشرب وهو واقف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم في حجة الوداع وهو واقف، كما في حديث علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وبعضهم يقول: إنه شرب واقفاً للضرورة حتى لا يزدحم عليه الناس، وهذه مسألة خلافية.

الذي يعنينا أن ماء زمزم لما شرب له، والشافعي رحمه الله -الإمام المعروف الفقيه- كان في أول حياته يحب الرمي بالسهام، فجاء إلى زمزم وهو شاب فقال: اللهم إني أشرب ماء زمزم للرمي، فهو يحدث رحمه يقول: كنت أرمي العشرة أسهم فإما أن أصيب تسعة من عشرة أو أصيب عشرة من عشرة، يعني إذا رميت العشرة أسهم تصيب كلها أو يصيب تسع منها؛ وهذا كله ببركة ماء زمزم.

والإمام الخطيب البغدادي رحمة الله تعالى عليه صاحب كتاب تاريخ بغداد المحدث المعروف شرب من ماء زمزم وقال: اللهم إنني أشربه لثلاث: أشربه لأن أملي تاريخ بغداد بها، وأشربه أن أحدث يعني يكتب لي درس في جامع المنصور، وأشربه لأن أقبر بجوار بشر الحافي.

قال العلماء: فحقق الله جل وعلا له أي للخطيب هذه الثلاث كلها، فأملى كتابه تاريخ بغداد في بغداد، وأصبح يحدث في جامع المنصور، ثم إنه مات وقبر بجوار بشر الحافي رحمة الله تعالى عليهما جميعاً.

والمقصود من هذا كله بيان فضل ماء زمزم، وقد دلت عليه الكتاب والسنة كما هو معلوم من عموم القرآن في قوله جل وعلا: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [آل عمران:٩٧].

ومما يتعلق بالإسراء والمعراج أن قُدِّم له صلى الله عليه وسلم دابة وهي البراق، ينتهي حافره حيث ينتهي بصره، فركبه صلى الله عليه وسلم وأسري به إلى المسجد الأقصى، وفي المسجد الأقصى صلى صلى الله عليه وسلم بالنبيين إماماً، وهذا من أعظم الأدلة على علو شرفه وكبير مقامه وفضله وتقدمه صلوات الله وسلامه عليه، ووجه الدلالة هنا أن بيت المقدس وأرض الشام هي أرض الأنبياء من بعد إبراهيم إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، فأكثر الأنبياء كانوا في أرض الشام عليهم السلام جميعاً، ومع ذلك هي أرضهم وديارهم ومنازلهم التي ولدوا فيها وهذا مسجدهم ومع ذلك صلى بهم صلى الله عليه وسلم إماماً في موطنهم، فجاءهم في مكانهم وأمرهم الله أن يقتدوا به صلوات الله وسلامه عليه؛ وهذا يدل على رفيع مقامه، وبالتالي على رفيع مقام أمته؛ لأنه وإن كانت أمته آخر الأمم عصراً إلا أنها أفضل الأمم؛ لأنها أمته صلوات الله وسلامه عليه، فهو حضنا من النبيين ونحن حضه من الأمم، ورحم الله من قال: ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيّرت أحمد لي نبياً ربط صلى الله عليه وسلم البراق في مربط موجود في المسجد الأقصى يربط فيه الأنبياء دوابهم، ودخل يصلي بالأنبياء، وهذا من أعظم الأدلة على أن الإنسان يأخذ بالأسباب؛ فهذا نبي الله محفوظ بحفظ الله له، ومعه أعظم الملائكة جبريل، ومعه دابة تأتمر بأمره ومع ذلك ربطها خوفاً من أن تنطلق، وهي لن تنطلق لكن حتى يأخذ الإنسان بالأسباب، ومع ذلك يتوكل على الملك الغلاب، وقد جاء في الآثار أن أبا سفيان بن حرب الزعيم القرشي الذي أسلم بعد ذلك كان بتجارة له في الشام فسأله هرقل عظيم الروم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان يتحاشى في جوابه خوفاً أن يجرّب عليه الكذب، وهو في نفس الوقت يريد أن ينقص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم عند هرقل، فبينما هما يتبادلان الحديث وهرقل يسأله فقال أبو سفيان لـ هرقل: إنه مما يدل على كذبه أنه حدثنا -أي النبي- أنه رحل من مكة إلى مسجد إيليا -أي المسجد الأقصى- إلى مسجدكم -يخاطب هرقل - في برهة من الليل وعاد في نفس اليوم، هو قالها يريد من هرقل أن يكذّبه فكان بطريق هرقل -رجل الدين عنده- واقفاً عند رأسه، فقال البطريق: والله إني لأعلم أي ليلة تلك الليلة فالتفت له هرقل وقال له: وما يدريك؟ فقال البطريق: إنني كنت كل ليلة أقفل أبواب المسجد حتى كانت تلك الليلة فلما أقفلت الأبواب بقي عليَّ باب، كلما حاولت أن أقفله لا يقفل فاستعنت بعُّمالي فلم يستطيعوا، فأرسلت إلى أهل الصناعة، أي إلى النجارين فقالوا لي: إن هذا الباب سقط عليه شيء فاترك الأمر إلى الصباح فإذا جاء الصباح أصلحناه، فوافقت يقول: فلما جئت في الصباح وجدت أثر مربط الدابة في المربط الذي يربط فيه الأنبياء دوابهم.

موضع الشاهد: انظر إلى عناية الله جل وعلا بنبيه صلى الله عليه وسلم، إن الله قادر على أن يقفل هذه الأبواب وجبريل يفتحها فيدخل صلى الله عليه وسلم، لكن الله جل وعلا يجري الكرامة لنبيه على سنن الخلق المعروفة؛ لأنه لو أقفلت الأبواب ودخل صلى الله عليه وسلم وصلى ورجع وأقفل الأبواب لما درى أحد، لكن الله جل وعلا يعتني بنيه حتى في أواسط ما يتناقله الناس عن سيرته صلى الله عليه وسلم، ومن هنا ينبغي أن يعلم أن الذي يريد أن يحقق غاية أياً كانت عظمت أو قلت لن يحققها إلا بالله جل وعلا فعلى هذا من أعظم أسباب تحقيق الأمان والغايات: التوكل الصادق على ربنا جل جلاله، والله جل وعلا يقول: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ} [القصص:٦١] والله تبارك وتعالى منجز وعده لا محالة لمن وعدهم من عباده، وأعظم ما وعد الله به عباده الجنة، لكن المقصود أن الغايات والأماني والمطالب تتحقق إذا صدق العبد في توكله على ربه جل وعلا.

والشافعي رحمه الله يقول: أهمني أمر ذات يوم فنمت فسمعت مناد في المنام يناديني: أن ادع الله بهذه الكلمات: اللهم إني لا أملك لنفسي حولاً ولا طولاً، اللهم إني لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً ولا حياة ولا موتاً ولا نشوراً، وإنني لن أستطيع أن أأخذ إلا ما أعطيتني، ولن أتقي إلا ما وقيت

<<  <  ج: ص:  >  >>