للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تأملات قرآنية في قوله تعالى: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب)]

الموقف الثاني مع قول الله جل وعلا: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء:٤ - ٨].

هذه الآيات مما اضطرب فيها كلام المفسرين اضطراباً عظيماً، ولن تجد كتاب تفسير بين يديك يغنيك فيها غناء تاماً؛ ولذلك فإن ما أقوله لا يمثل وجهة نظري، فأنا سأنقل آراء الناس في هذه الآية، وكلمة الناس تعني العلماء والمؤرخين والفضلاء وأهل النظر، ولا تعني المفسرين فقط.

أقول: إن العلماء اضطربوا فيها؛ لأن الأقدمين من السلف لم يروا الواقع المعاصر.

والناس لا تريد تفسير آيات في القرآن مثل هذه الآيات للواقع المعاصر الذي هو اليوم.

ومعنى هذه الآية عموماً أن الله أخبر أن لبني إسرائيل علوين: علو أول، ثم يُغلبون ويُهلكون، ثم تعود لهم الكرة ثم يُغلبون، ثم قال: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:٨] هذه واضحة المعنى من القرآن.

قوله: ((وَقَضَيْنَا)) أي أعلمنا وأخبرنا {إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} [الإسراء:٤ - ٥] أي الأولى منهما {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإسراء:٥] هذا العلو الأول والهلاك الأول، {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} تصبح الدائرة لبني إسرائيل {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} [الإسراء:٦ - ٧] أي المرة الثانية {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:٧] أي يهلكونكم، ثم قال {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:٨] وعسى من الله وعد، وقال: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:٨] فوقع الإشكال في قوله: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:٨] هذا المفهوم العام.

ووجه الإشكال هو من هم المخاطبون في هذه الآية؟ نقول: أكثر علماء السلف على أن هاتين الواقعتين وقعتا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الهلاك الأول كان على يد بختنصر ملك بابل، ثم انتصروا على يد داود، ثم أهلكوا، ثم عادوا.

ويفسرون قول الله جل وعلا: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:٨] على أنهم عادوا للإفساد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والله جل وعلا عاد عليهم بأن سلط عليهم رسوله وأصحابه من بعده فأجلوهم من جزيرة العرب.

ويصبح معنى قول الله {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:٨]: أن الله رحمهم وجعل منهم ملوكاً وأنبياء كما نص عليه في سورة المائدة، هذا القول ورد في أكثر الكتب القديمة من كتب السلف.

قال فريق آخر: إن الأولى حصلت على يد بختنصر لكن الثانية لم تحصل بعد، وهي المتوقع حدوثها في عصرنا هذا.

اليهود في إسرائيل الآن كما قال الله: {أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء:٦] والنفير غالباً يطلق على الإعلام، وهم اليوم أكثر إعلاماً ومعرفة في العالم؛ لسيطرتهم على كثير من الأجهزة والقوة الإعلامية في العالم، وأنه بقيت الثانية وستكون على أيدي المسلمين، هذان تأويلان.

وآخرون يقولون: إن الواقعتين كلاهما لم تحصل إلى الآن، ويقولون: إن جمعهم الآن في فلسطين هو الهلاك الأول؛ لأن الله قال: {عِبَادًا لَنَا} [الإسراء:٥] وهذا لا يكون إلا للمسلمين؛ لأن بختنصر غير مسلم، فيغلبهم المسلمين ويجلوهم عن القدس لا عن فلسطين كلها، وإنما يضيّق عليهم في تل أبيب وما حولها، ثم إنهم ينصرهم العالم والقوى الدولية سواء قلنا أمريكا وبريطانيا وقد يغير الله أمريكا وبريطانيا ويناصرهم آخرون، المهم أنهم سينصرون فيغلبون المؤمنين مرة ثانية ويجلونهم عن القدس، ثم يعود المسلمون فيجلونهم كرة أخرى عن نفس المسجد ليتحقق قول الله: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:٧]، لكن الذي يشكل عليه قول الله {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:٨] وقول الله: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:٨] وعسى في القرآن في حق الله واجبة، يعني أن الله راحم لا محالة إذا قال عسى أن يرحم، أو قال: عسى أن يعفو.

وبهذا لم يتحقق قول الله: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:٨].

والأولون يقولون: إن كلا الأمرين قد وقعا في الزمن الغابر، وقول الله جل وعلا: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:٨] تحقق في العصر القديم والعصر الحاضر تحقق قديماً على يد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنهم عادوا للإفساد مرة أخرى على قول الله: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:٨] وأهلكوا على يد هتلر، أما صلاح الدين فقد حارب النصارى والصليبيين، وليس له علاقة بالقضية لا من قريب ولا من بعيد؛ لأن الصليبيين الذين غزوا عام ٤٩٢ تقريباً وسط القرن الخامس أهلكوا اليهود والمسلمين في القدس، ونحن نتكلم هنا عن اليهود، وصلاح الدين لم يجل اليهود.

نحن نقول إن الله يقول: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:٨] أي إن عدتم للإفساد أعدنا عليكم التسليط، ولا يلزم من التسليط أن يكون هتلر مؤمناً؛ فإن هتلر أهلك اليهود هلاكاً عظيماً أهلكهم في ألمانيا، وطاردهم في فلسطين، وأرسل لـ أمين الحسيني -وكان زعيماً مسلماً في أرض القدس- عن طريق ليبيا ٣٠.

٠٠٠ قطعة سلاح، وجمّع العرب والمسلمين الذين كانوا في أوروبا، وأمر القواد الألمان أن يدربوهم على القتال، وكان يبعث بهم في السفن إلى فلسطين حتى يقاتلوا اليهود، وقد حرقهم وأهلكهم كما هو معروف.

لكن هتلر انكسرت شوكته في الحرب العالمية الثانية، فلما انكسرت شوكة هتلر بانتصار الحلفاء -بريطانيا وأمريكا- غزا اليهود أمريكا وبريطانيا إعلامياً، فعادت النصرة لليهود؛ لأن خصمهم هتلر غلبه الحلفاء وهزم كما هو معلوم في الحرب العالمية الثانية، وأصبح النفوذ عالمياً لأمريكا والحلفاء الذين خرجوا منتصرين، وهؤلاء كلهم عن بكرة أبيهم أيدوا وجود اليهود في أرض فلسطين، وإلا فاليهود لم يكونوا موجودين في أرض فلسطين، ودولة إسرائيل المعاصرة أعلن عن قيامها رسمياً عام ١٩٤٨م، وبعد سنتين من إعلانها عام ١٩٥٠م أعلن بنقريون وكان رئيس إسرائيل آن ذاك أن أي شخص يهودي يدخل فلسطين يُعطى الجنسية الإسرائيلية -لأن كلمة يهودي غير كلمة إسرائيلي- حتى يشجع الهجرة فقدم اليهود من كل أنحاء العالم حتى اليمن خرج منها أربعون ألف يهودي ودخلوا أرض فلسطين، وهذا مصداق لقول الله جل وعلا في الإسراء في آخر الآيات: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:١٠٤] والله جل وعلا جاء بهم من كل جانب، فنحن نقول - والله تعالى أعلم-: إن الهلاك الأول كان على يد بختنصر، والهلاك الثاني هو الذي سيحصل في هذا العصر، وهذا أقرب القولين والله أعلم، وإن كنت لا أجزم به لعدم الأدلة التي تؤيد ذلك، لكن هذا مختصر حالة اليهود في أرض فلسطين، وهم لم يكونوا محتلين لبيت المقدس (للمسجد الأقصى) وإنما احتلوه في حرب ١٩٦٧م، ولم تكن مدينة القدس داخلة ضمن حدود تلك الدولة.

الذي يعنينا هنا أن هذا مجمل ما قاله العلماء في الآية، والحق لا يعلمه إلا الله، والأيام حبلى بكثير من الأحداث؛ وستقع أحداث كثيرة الله أعلم بها، لكن اليهود عموماً في غالب الظن عندهم علم بما سيكون بما أطلعهم الله جل وعلا عليه، واطلاعهم على الكتب القديمة يساعدهم على معرفة أشياء كثيرة.

فـ كعب الأحبار كان يهودياً أسلم في عهد عمر، ومشهور ذكره في التفسير.

وقد لازم عبد الله بن الزبير فكان يخبره بكل شيء مما سيحدث.

كما أخبره أنه سيصبح أمير المؤمنين! وسيملك الحجاز، إلى أن جيء يوماً بـ المختار الثقفي من أهل الطائف، وكان قد ادعى النبوة، وهو كذاب معروف، فقتله أحد جند عبد الله بن الزبير، لعله مصعب بن الزبير أخو عبد الله ثم حُمل رأس المختار الثقفي إلى عبد الله بن الزبير فجيء به وهو يتغدى، ووضع رأس المختار بين يديه وهو خصمه، فقال عبد الله بن الزبير -وهذا يدل على علم اليهود-: كل م

<<  <  ج: ص:  >  >>