للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تأملات في قوله تعالى: (الله يعلم ما تحمل كل أنثى)]

قال الله تبارك وتعالى يمتدح ذاته العلية: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:٨ - ٩].

قلنا: إن القرآن كله عظيم، ثم بينا أن أعظم ما في القرآن ثناء الله على نفسه.

ثم إن كلام الله عن الله ينقسم إلى قسمين: كلام عن صفاته الذاتية جل وعلا، وهذا أرفع المقامات، ثم عن صفاته الفعلية ويأتي بعده مباشرة في المرتبة، وهو كإخباره تبارك وتعالى عن علمه هنا.

يقول الله سبحانه: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد:٨]، علم ما في الأرحام مما اختص الله جل وعلا بعلمه في الجملة، قال الله جل وعلا: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:٥٩].

وعند الإمام أحمد -رحمة الله تعالى عليه- في المسند من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:٣٤]).

ينجم عن هذا علم أن ما في الأرحام من مفاتيح الغيب، لكن ينبغي أن يؤخذ بشموله، فلا يكون مقتصراً كما يقول الناس اليوم على معرفة كونه ذكراً أو أنثى، فما في الأرحام أكبر من كونه ذكراً أو أنثى، أو يولد سقيماً أو صحيحاً، فكل ذلك أمره مجمل لا يعلمه إلا الله تعالى.

ثم قال تعالى: {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد:٨].

تغيض: أي تنقص، وضدها: تزداد، وهي ظاهرة.

والمعاصرون من العلماء يقولون: إن تفسير العلم الحديث للقرآن سلك بهذه المسألة مسلكاً آخر، وهي قضية وجود النطفة في الرحم، إلى غير ذلك مما لا نجيده فنتركه، ونكتفي بما هو مدون في كتب العلماء السابقين فنقول: إن الله جل وعلا جعل الرحم مستقراً للنطفة؛ لأن الله لما ذكر النطفة قال: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:١٣]، وهو الرحم الذي فيه يتكون المخلوق، ويقول الله هنا: {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد:٨].

وجل المفسرين يدور تفسيرهم للآية حول مدة الحمل نقصاناً وزيادة، يقولون: إن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأن الله قال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:١٥]، وقال جل وعلا عن الرضاعة: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:٢٣٣]، والحولان الكاملان يكونان أربعة وعشرين شهراً، فأنقصوا الأربعة والعشرين من الثلاثين فبقيت ستة أشهر، وهذا عليه الطب الحديث، فالذي نعلمه إلى الآن من الطب الحديث أنه لا يمكن أن يحيا جنين بأقل من ستة أشهر، ويقولون: إن عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي المعروف ولد لستة أشهر.

ثم إن العلماء رحمهم الله اختلفوا في أكثر مدة الحمل، واختلافهم هنا مرده إلى التجربة، فالمسألة لا يمكن أن يكون فيها فصل خطاب؛ لأن هذا أمر لم يرد في كتاب ولا في سنة، فيبقى الأمر على تجارب الناس، وكل إنسان يعتد بالشيء الذي يراه.

فقال بعضهم: إن أكثر مدة الحمل سنتان، وهذا منقول عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فهي تقول: إنه لا يمكن أن تزيد مدة الحمل عن سنتين، وقد أخبر الوليد بن مسلم -وهو أحد التابعين- مالكاً رحمه الله بقول عائشة هذا، فقال مالك رحمه الله: سبحان الله من يقول بهذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان امرأة صدق نعرفها، وزوجها زوج صدق نعرفه، حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، أراد مالك بهذا أن يكون شاهداً على خطأ قول من يقول إن أكثر مدة الحمل سنتان، وهذه إحدى الروايات في مذهب مالك، والرواية الأخرى في مذهبه رحمه الله أن أكثر مدة الحمل خمس سنين.

وقلنا: إنه لا يوجد دليل لا لهؤلاء ولا لهؤلاء، وكله وارد، فقد يمكث الحمل عشر سنين، وهذا مرده للواقع، ويذكر القرطبي في الجامع، والشنقيطي في أضواء البيان، وابن كثير في تفسيره أن مالك بن دينار كان في مجلسه، فدخل رجل فقال: يا أبا يحيى! ادع الله لزوجتي فإن لها أربع سنين في كرب شديد، فأطبق مالك المصحف غضباً وقال: سبحان الله هل يظن بنا الناس إلا أنبياء، خاف على نفسه الفتنة أن يقال له: ادع الله أمام الناس، ثم كأنه أدركته الشفقة على الرجل، فرفع يديه يدعو وقال: اللهم! إن كان ما في بطن هذه المرأة ريحاً فأخرجه، وإن كان جارية فأبدله غلاماً فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب.

ومكث مالك يدعو فدخل رجل آخر يعرف زوج المرأة، فقال له: أدرك زوجتك، فخرج الرجل لزوجته ثم عاد بعد قليل ومعه مولود له أربع سنين قد استوت أسنانه ولم يقطع سراره، فحمد الله مالك على استجابته لدعائه.

فهذه حادثة جعلت مالك بن أنس وأقرانه وغيرهما من العلماء يقولون: إن مدة الحمل أربع سنين، ولو جاء رجل آخر وأدرك الصبي محمولاً لخمس سنين فسيقول: أكثر مدة الحمل خمس سنين، لكن لا نعلم نصاً صريحاً نحاكم الناس إليه.

ثم قال جل وعلا: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:٨].

خلق الله جل وعلا كل شيء بقدر، والله جل وعلا لا يعجل لعجلة أحد من خلقه، فما كان لك سيأتيك على ضعفك، وما لم يكن لك فلن تناله بقوتك، وإنما شرع الله أسباباً يجب على العاقل أن يأخذ بها، ويعتصم بربه تبارك وتعالى، فإذا وقع الأمر، وحلت النازلة، فيسلم المؤمن أمره إلى ربه تبارك وتعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>