للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حل الإشكال الوارد في قول الله تعالى عن لوط (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم)]

القضية الثانية في قول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:٧٧ - ٧٨].

وهذه القصة معروفة وهي بالجملة أن الملائكة دخلت على لوط في صورة شباب حسان، فلما رآهم قال الله عنه: {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:٧٧]، يعني: سيكون فيه من المشاق ما الله به عليم وقد وقع ذلك.

قال الله: ((وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ)) أي: يتسابقون {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود:٧٨] يعني: أمر تعودوا عليه {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:٧٨].

نقف عند قول الله على لسان نبيه لوط (هؤلاء بناتي)، وهذا الإشكال سوف نحاول أن ندفعه قدر الإمكان في هذا الدرس.

لما أراد قوم لوط أذية الشباب الذين هم الملائكة في الأصل، أراد لوط أن يدفع هؤلاء عن ضيوفه، قال: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:٧٨] فأهل كثير من المفسرين يقولون: إنه قصد بقوله: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي} [هود:٧٨] بنات القرية، وأنه أراد بالمعنى أن يتشفع لهؤلاء الرجال في أن يتزوجوا بنات القرية؛ حتى يكون ذلك دفعاً لهم عن الفاحشة، وقالوا: إن أي نبي يعتبر كالأب لأمته، هذا حجة من قال: إن قوله: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي} [هود:٧٨]، عائدة على بنات القرية.

وقال آخرون: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود:٧٨]، أراد أن يزوجهم بناته اللواتي من صلبه.

ونحن نقول والله أعلم: كلا هذين الرأيين صعب أن يقال به؛ لأن القرآن نزل باللغة على ما يوافق العقل، وهذا الكلام لا يوافق اللغة ولا يوافق العقل.

أما لماذا لا يوافق اللغة؟ فإن كلمة هؤلاء في اللغة تكون للإشارة إلى الشيء الحاضر، ولا تكون للشيء الغائب، فكلمة: (هؤلاء) لا تطلق على شخص غير موجود، وإنما تطلق على شخص حاضر، فانتفى بذلك القول بأنه قصد بنات القرية، هذا الأمر الأول، والذي يدفع القول بأن النبي يعتبر كالأب لبنات القرية أن النبي لا يعتبر كالأب للبنات الكافرات، والقرية كلها كافرة إلا من كان في بيت لوط، قال الله: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:٣٦] وهو بيت لوط، فلا يوجد في القرية أحد مؤمن، حتى نقول: إن لوط أباً لهم.

القول الثالث وهو الذي نختاره، وقد نسبه العلامة الآلوسي رحمه الله في (روح المعاني) إلى غير أحد، حيث قال: قال به أجلاء المفسرين، ونص عليه العلامة ابن سعدي رحمه الله في كتابه (قصص الأنبياء).

وهذا القول هو أنه قصد بناته عيناً، وقصد أن يأذن لهم بالزواج أو بدون زواج، فإن قيل: كيف يعقل أن النبي يعرض بناته لأهل الفواحش، قلنا: هذا من باب إقامة الحجة على المعاند، ومن باب علمه اليقيني أن هذا لن يكون، ونظير ذلك، وهو أعظم القرائن على صحة ذلك ما جاء في الحديث الصحيح: (أن سليمان عليه السلام اختصمت عنده امرأتان في ابن لهما، كل تدعي أنها أمه، فقال عليه السلام: ائتوني بالسيف، ثم قال: أنا أقطعه قطعتين وأعطي كل واحدة نصفاً، فقالت أمه الحقيقية: لا تفعل، أعطه فلانة)، تطلب نجاة ابنها.

الشاهد من القصة: أنه لو وافقت المرأتان أن يقطع سليمان الطفل فإنه يستحيل ذلك، لكن هذا من باب علم سليمان أنه لن يقع.

ومثال آخر: لو أن رجلاً له خصوم وأعداء، ينتظر منذ مدة أن يظفر بهم، وخصومه هؤلاء بينك وبينهم علاقة متوادة.

فإذا جاء هؤلاء بيتك فعلم هذا العدو أنهم في بيتك وجاء ومعه سلاحه وأراد أن يقتلهم فأخذت تذكره بالله وأنهم ضيفك، ومع ذلك لم يرتدع، فقلت له: إذ كان ولابد فاقتلني وأبنائي بدلاً منهم.

من الناحية الشرعية لا يجوز أن يدعو الإنسان أحداً إلى قتله ولا إلى قتل أبنائه، لكن هو ما قال هذا من باب أنه يجوز أو لا يجوز، وإنما ليبين لهذا الخصم أنه أحرجه أمام ضيوفه، وهو يعلم يقيناً أن هذا العدو لن يقتله؛ لأنه لن يستفيد لو قتل الرجل وأبناءه، فهو إنما يريد خصومه.

فمثلها تماماً لوط، فإنه يعلم يقيناً أنه لو عرض بناته حتى بالزنا على هؤلاء لن يقبلوا ذلك لأنهم لو أرادوا الزنى، ولو أرادوا الزوجات لما جاءوا إلى بيت لوط، فكلهم متزوجون، ويستطيعون أن يأتوا الفاحشة كما يريدون، لكنه يعرف أنهم لا يريدون هذا، ومما يدل على صحة هذا القول: أنهم هم أنفسهم عرفوا ذلك فقالوا: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:٧٩]، أي: أنت تعرف أننا لا نريد بناتك إنما نريد هؤلاء.

لكن لوطاً عليه السلام أراد أن يبين لضيفه -وهو لا يدري أنهم ملائكة- أنه فعل كل ما يمكنه ليدفع عنهم الفاحشة.

هذا القول رجحه العلامة ابن سعدي في قصص الأنبياء، ونسبه الآلوسي إلى أجلاء من أهل العلم، لكنه لم يذكر أسماءً.

وهو إلى ساعتنا هذه هو الذي نختاره، والعلم عند الله تبارك وتعالى.

هذا حل الإشكال الوارد في قوله تعالى: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} [هود:٧٨].

<<  <  ج: ص:  >  >>