للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض)]

في الآية الأولى قال الله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة:١٦٣] إخبار، أما الآية التي بعدها فهي دلائل اعتبار، وذكر تفاصيل ما يدل على عظمة الواحد القهار قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:١٦٤]، العقل مناط التكليف، وتمر عليه ثلاثة أحوال حال عارضة، وحال مؤقتة، وحال مستديمة.

الحال العارضة: النوم فيرتفع قلم التكليف، والحال المستديمة: الجنون فيرتفع حال التكليف، والحال المؤقتة: الصغر فيرتفع حال التكليف إلى أن يكبر، والعناية بالعقل وجعله مناط التكليف دليل عظيم على عناية الإسلام بهذا العقل.

والعقل مكتشف للدليل، وليس منشئاً له، ففي هذه الآيات ذكر الله دلائل الاعتبار على الزمن على قدرة الله الواحد القهار فقال جل شأنه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:١٦٤]، وخلق السماوات والأرض من أعظم الأدلة والبراهين على قدرة الله، قال الله في سورة غافر: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:٥٧].

(واختلاف الليل والنهار) الله جل وعلا يولج هذا في هذا.

(والفلك) أي: السفن (التي تجري في البحر بما ينفع الناس) تسخير من الله جلا وعلا، والعلماء تكلموا في البحر كثيراً، ومن أشهر من ركبه من الأنبياء نوح وموسى ويونس، وقد فصلنا هذا القول في دروس مضت.

{وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ} [البقرة:١٦٤]، تصريف الرياح تكون أحياناً بينة، وتكون أحياناً عاصفة، وتكون أحياناً حارة، وتكون أحياناً باردة، وتكون أحياناً عذاباً، وتكون أحياناً نصراً، قال عليه الصلاة والسلام: (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور)، وتكون أحياناً ملقحة، وتكون أحياناً عقيمة، هذا كله تصريف للرياح، ولا يقدر عليه إلا الله {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [البقرة:١٦٤]، نحن نعلم قطعاً أن الماء ينزل من السحاب، لكن يوجد قول للعلماء أن المطر ليس من السحاب، وإنما السحاب غربال وأمارة على نزول المطر، والمطر ينزل من السماء ويمر عبر هذا الغربال الذي هو السحاب، ثم ينزل للناس، وهذا القول وإن قال به أفراد قليلون إلا أنه موجود، وقالوا: تجتمع فيه الآية؛ لأن الله قال: {وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ} [البقرة:١٦٤]، قالوا: لو كان الماء ينزل من السحاب لما كانت هناك حاجة لأن يعيد الله جلا وعلا قوله: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ} [البقرة:١٦٤]، وهذا أظنه منقول عن كعب الأحبار، لكنه رأي مرجوح جداً جداً، والذي عليه العلماء كافة خاصة في القرون المتأخرة ما دل عليه العلم الحديث أنه من السحاب الذي في السماء، لكنني ذكرته حتى لا تفاجأ به إذا قرأته في كتاب، وأذكر أنني سمعته قبل ثلاثين سنة من أحد العلماء؛ فذهلت بمجرد سماعه، ولو أنه رحمه الله قالها تفصيلاً كما حررنها لكم، وهو لا يجهل هذا، ثم مع الأيام تبين مقصده غفر الله له ورحمه.

قوله تعالى: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:١٦٤].