للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من فوائد آيات الوصية]

نعود للصناعة اللغوية في الآية، يقول الله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة:١٨٠] أي: إن حضرت مقدمات الموت، وإلا فالموت إذا حضر فلا يمكن لأحد وقته أن يتحدث أو يوصي أو يقول شيئاً، والإنسان عند الموت تغلب عليه جبلّته ويفيء إلى أصل نبتته، فالذي هو ذو غرس جيد، ومعدن محكم، وأصل في الناس، حتى ولو صاحب حياته أخطاء على بعض قراباته ومن حوله، فإنه إذا دنا الموت يشعر بالندم، فيحاول أن يعوض ويتراجع، وأما والعياذ بالله من كان سيء السريرة أصلاً وخبيث النفس، واللؤم فيه متحكم، فإنه حتى لو دنى الموت يزيد الأمر وبالاً.

والخير في القرآن ورد كثيراً بمعنى: المال، ومنه قول الله جل وعلا: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:٨] لكن هنا {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة:١٨٠] فيها إشعار لغوي أنه ليس كل مال يوصى منه، إلا ما اجتمع فيه أمران: الأول: الكثرة، ومرد القلة والكثرة إلى العرف.

والأمر الثاني: أن يكون مكتسباً من وجوه حسنة مباحة، فالمال إذا كان وفيراً مكتسباً من وجوه حسنة فهو الذي يتأتي فيه الأمر القرآني بأن تكون فيه الوصية، وهذا الذي يفهم من السياق اللغوي لقول الله جل وعلا: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:١٨٠].

وقد جاء في أثر عند الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: (أن أحد الصحابة جمع أكبر بنيه وقال له: ادع إخوتك، فدعاهم، فقال لهم: إنني أريد أن أوصي وأبدأ بيتيم في حجري، ولما قال: يتيم، معناه: أن هذا اليتيم ليس ابناً لهذا الموصي، فأوصى له بمائة من الإبل والنياق، وكانت تسمى المطيبة عند العرب، فقال الأبناء وهم يتهامسون: إننا وإن رضينا بهذا في حياة أبينا فلن نقبل به بعد وفاته، فذهب الأخ الأكبر وأخبر أباه، فقال الأب: -وما أسعدهم من جيل لأنهم يحتكمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- بيني وبينكم رسول الله، فحمل أبناءه ومعه اليتيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له القضية، فلما قال: مائة غضب صلى الله عليه وسلم وتغير وجهه، وقال: (لا لا لا) ثم قال: (خمسة، عشرة، خمسة عشر) ويرتفع حتى أوصلها صلى الله عليه وسلم كحد أقصى إلى أربعين فقال: (فإن أبيت فأربعون) وهو أراد أن يعطيه مائة، وهذا من دلالة كمال عقله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا يفضي إلى النزاع، ويفضي إلى سوء ظن الأبناء بأبيهم، وقد يفهم منه أنه أراد الفخر والخيلاء؛ إذ حرم من لهم الحق فوزعه في غير مكانه، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإن أبيت فأربعون)، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم كأنه أعجب باليتيم؛ إذ معه هراوة يضرب بها الجمال، فقال: (ما أعظمها من هرواة بيد يتيم!).

ثم إن الرجل قبل أن يودع النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يا نبي الله إن لي أبناء وإن منهم ذوي لحى -أي: كباراً- وإن أصغرهم هذا وكان اسمه حنظلة وهو غير اليتيم -فادع له، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على جبهته وقال: بارك الله فيك) ثم إن هذا الشاب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى له بالرجل الذي فيه ورم، أو بالبهيمة التي في ضرعها ورم ليقرأ عليهما أو على أحدهما فيضع يده، ثم يسمى الله، ثم يتفل فيها، ثم يضع يده على موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهه، ثم يضع على الورم سواء كان في رجل أو في بهيمة فيزول ذلك الورم.