للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذكر بعض من شروط الحج]

قال ربنا: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:١٩٧] قلنا: التقدير هنا أي: وقت الحج أشهر معلومات، حتى يأتي الذي بعدها، فقال ربنا بعدها: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ} [البقرة:١٩٧] أي: في هذا الوقت، {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة:١٩٧] أي: ألزم نفسه بالحج، والحج خامس أركان الإسلام كما هو معروف، وهو ثابت ركناً في الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ} [آل عمران:٩٧] وفي هذا دلالة إيجاب، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:٩٧].

فالاستطاعة: شرط في إلزام المرء بالحج، إضافة إلى الشروط التي تكون غالباً في جميع العبادات من الإسلام والعقل والبلوغ، لكن الاستطاعة في الوصول إلى البيت شرط في إلزام العبد بالحج، وهذه الاستطاعة فسرت: بالزاد والراحلة، وفسرت بغيرها، والصواب: أن تفسر بكل ما يمكن أن يبلغ بالمرء بيت الله الحرام على إطلاقه؛ لأن هذه القضايا مثلاً: الزاد في عصرنا قد لا يحتاج إليه المرء كثيراً؛ لأنه يوجد كثير من الصدقات، لكن لا يلزم المرء بالصدقات، وسنأتي بلطيفة هنا في التفسير قبل أن نشرع في معنى قول الله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة:١٩٧] في قضية الاستطاعة، فلو أنك سئلت عن إنسان من الناس لا يملك مالاً حتى يحج، والحج الآن يكون عن طريق الشركات، فيأتي إنسان لا يملك مالاً حتى يحج، فالحج ركن لكن هذا الرجل لا نستطيع أن نلزمه بالحج؛ لأنه لا يملك المال، أي: أنه عاجز، عاجز مالياً لا بدنياً، فلو جاء إنسان من الناس وقال له: كم يكلف الحج؟ فقلنا: إن الشركات المتوسطة تأخذ مثلاً أربعة آلاف فقال: هذه سبعة آلاف، وما عليك إلا أن تحج، السؤال هنا: هل يصبح الحج في حقه واجباً؟

الجواب

لا، فليس شرطاً أن يقبل إلا في حالة واحدة: إذا كان المعطي هو ابنك، وهذا على قول الشافعي لا على قول الجمهور؛ العطية الأولى فيها شيء من المنة، وأنت حر تقبل أو لا تقبل، أما ابنك إذا أعطاك فليس فيها منة؛ لأن ابنك من كسبك ومالك: قبول ما يهدى إليك سنة والترك أولى إن رأيت المنة أي: إن غلب على ظنك أنها منة فلا تقبلها.

وقول الشافعي هنا فيما يغلب على ظني قوي جداً، ولذلك أحد السفيانين -وكلاهما حجة حافظ مجتهد مجمع على جلالته- كان يقول: أقبل هدايا السلطان، ولا أقبل هدايا الإخوان، فقيل له: لماذا؟ قال: لأن الأخ يمن، والسلطان لا يمن.

يعني: أخوك إذا أعطاك فإنه كل أسبوع أو أسبوعين يذكرك بها، لكن السلطان يعطيك ويعطي غيرك، بل ولا يدري أنه أعطاك، ولا يمن عليك بها، والناس يختلفون في هذا، فلا توجد قاعدة مطردة، والإنسان بحسب حالته، فلا نقول لمن يقبل: إنه لا يجوز لك أن تقبل، ولا يقول لمن يرفض: إنه لا يجوز لك أن ترفض، فأحوال الناس ووضعهم في المجتمع يختلف، ومن يعطى خفية غير الذي يعطى علناً، ولا يوجد لها ضابط.

نعود للآية قال ربنا: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ} [البقرة:١٩٧] أي: في هذه الأشهر، ولا هذه عند النحويين: نافية للجنس، تعمل عمل إن وأخواتها، فتنصب الاسم وترفع الخبر، {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:١٩٧].

الرفث: الجماع ومقدماته، ومن الصناعة الفقهية: إنه لا يوجد شيء يفسد الحج إلا الجماع.

(ولا فسوق)، الفسوق: العصيان، وأصله: كلمة معناها: الخروج عن طاعة الله: {وَلا جِدَالَ} [البقرة:١٩٧] أي: لا مماراة ولا نزاع في الحج: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:١٩٧].

ولا ريب أن من أراد أن يقدم على بيت الله ينبغي عليه أن يقدم قدوم الخائف الوجل المشغول بذنبه، الراجي عفو ربه، المؤمن من الله جل وعلا بالقبول، ليس المشغول بمن حوله، ومن يطلق النكات هاهنا وهناك، ومن ينازع الناس في الدينار والدرهم، أو أن يتخذ شركة ينجم من خلالها جمع أموال الناس، وأكلها بالباطل، أو أن يبحث عن صدارة وشهرة، فيتكلم في كل وقت وحين، يرجو أن يشار إليه بالبنان، أمور كثيرة تحدث وأغاليط، لكن الإنسان يتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ويخلص لله جل وعلا نيته: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:١٩٧] والرفث إذا وقع -وهو الجماع- يفسد الحج، أما الفسوق أو المعصية ما لم تكن شركاً والجدال فهذا لا يفسد الحج، لكن يقلل من أجره، ثم قال الله جل وعلا: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة:١٩٧] وما هنا: شرطية، وفعل الشرط: تفعلوا، وجوابه: يعلمه، ولذلك جاءت (يعلم) مجزومة.