للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم)]

ثم قال الله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:٢١٥].

الآن جاء ضرب آخر من الحديث يتعلق بالتشريعات، وسورة البقرة مر معنا في فاتحتها أنها سورة مدنية، وهي من أوائل ما أنزل في المدينة، ولهذا كان أهل المدينة يفتخرون بها افتخاراً عظيماً، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضيق عليه في يوم حنين أمر العباس أن يدعو الناس، فأخذ العباس يقول: يا أصحاب سورة البقرة! يقصد الأنصار، فيذكرهم بالجهاد الذي فرض في سورة البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:٢١٦].

فسورة البقرة سورة مدنية، وهي أطول سورة في القرآن، ومن أوائل ما نزل في المدينة، وكان الأنصار يفتخرون بها افتخاراً عظيماً، وهنا يأتي الحديث عن قضايا تشريعية، فيقول جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} [البقرة:٢١٥]، يقول المفسرون: إن السائل عمرو بن الجموح رضي الله عنه وأرضاه، وهو الذي مات شهيداً في أحد، وأُحد جبل يقع شمال المدينة، وسمي أحداً لتفرده عن الجبال، وقد جاء في حقه: (أحد جبل يحبنا ونحبه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (اثبت أحد؛ فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)، فـ عمرو هذا أحد أعظم الشهداء في أحد، والشهداء في أحد كانوا سبعين شهيداً، والله يقول: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران:١٦٥]، فالمصيبة التي أصابتهم ما كان من قتلهم يوم أحد، وقد قتل منهم سبعون، وأصابوا مثليها في بدر، فقد قتلوا من المشركين سبعين وأسروا سبعين، وهذا خروج عن الآية لكن هذا بسبب ذكرنا عمرو بن الجموح، يقولون إنه سأل: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} [البقرة:٢١٥]، والأظهر من أقوال العلماء أن المسئول عنه صدقة التطوع؛ بقرينة أن الله قال: {قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:٢١٥]، ومعلوم أن الوالدين لا يعطيان من الزكاة الشرعية، ولكن الكلام هنا على صدقة التطوع، فقال الله جل وعلا: {قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة:٢١٥] قلَّ أو كثر، {فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:٢١٥]؛ لأنهما أعظم حقاً، {وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:٢١٥]، والأقرب هو الأدنى، أي: الأدنى إلى المنفق، {وَالْيَتَامَى} [البقرة:٢١٥]، يتامى جمع لكل يتيم ويتيمة، فإذا قلنا: يتامى فالمراد جمع من الذكور والإناث ممن يتم، وإذا قلنا: أيتام فنتكلم عن ذكور لم يبلغوا الحلم ومات والدهم، والقرآن هنا يتكلم عن كونهم ذكراناً أو إناثا فجعلها يتامى.

قال الله تعالى: {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [البقرة:٢١٥] أي: الفقراء، وسموا مساكين؛ لأن الفقر أسكنهم، فلا ريب أن قلة المال في الغالب تضفي على صاحبها شيئاً من السكون، والعرب تقول: حتى الكلاب إذا رأت ذا ثروة حنت إليه وحركت أذيالها وإذا رأت يوماً فقيراً معدماً هشت إليه وكشرت أنيابها لكن العبرة بما عند الله، وابن السبيل هو المسافر المنقطع، ولا بد من تقييده بالمنقطع؛ لأنه إذا كان غنياً فليس بحاجة إلى أن يأخذ من أحد.

ثم بعد أن بين الله جل وعلا كيف تنفق الأموال، بين الله تبارك وتعالى أن كل خير يصنعه العبد فإن الله مطلع عليه، فقول ربنا: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:٢١٥]، فهذا إجمال بعد تفصيل، وعام بعد خاص.