للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك)]

ثم قال الله جل وعلا: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:١٠ - ١١].

هذا من تسلية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ومن تثبيت قلبه ومن تعليمه سنة الله في الرسل من قبله، فليست -أيها النبي- أول من استهزئ به، والإنسان إذا عرف مصيبة غيره هانت عليه مصيبته، تقول الخنساء في رثاء أخيها صخر: يذكرني طلوع الشمس صخرا وأذكره لكل مغيب شمس ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي ولهذا جاء في الزخرف أن الله جل وعلا يعاقب أهل الكفر في النار بمنعهم من التأسي بمصائب بعضهم، فقال تعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:٣٩].

فالمقصود من قول الله جل وعلا: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} [الأنعام:١٠] تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت جنانه، وهذا من أغراض القرآن ومقاصده الكبرى، وهو إخباره صلى الله عليه وسلم بسنة الله جل وعلا في الأمم قبله.

ومن يتتبع مناهج المفسرين يجد أن لهم طرائق في تفسير القرآن، فمن كان منهجه تفسير القرآن بالقرآن يجد في قول الله جل وعلا: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} [الأنعام:١٠]، طريقاً رحباً؛ لأنه سيعرج على الآيات والسور التي ذكر الله جل وعلا فيها استهزاء الأقوام برسولهم، وهذه طريقة الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان، ولذلك تجده في آيات لا يبحر، وتجده يترك آيات ويعرض عن تفسيرها؛ لأن كتابه أسماه: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن.

ومن الطرائق العلمية في التأليف أن الإنسان إذا وضع قاعدة يسير عليها لا يستطيع أحد أن يلومه.

ولذا فإنك إذا أردت أن تقرأ كتاباً فلا تبدأ بشيء قبل مقدمته، فمن مقدمة الكتاب يتضح لك قدرة المؤلف أو طريقته، وسيكون بينك وبين القراءة فصل خطاب، فإما أن تستمر وإما أن تترك؛ لأنك تعرف من المقدمة الذي أراد صاحب الكتاب أن يبلغك إياه.

فـ السيوطي رحمه الله تعالى من أئمة العربية الكبار، ومن أئمة العلم الشرعي، فألف كتباً عديدة لا حصر لها من باب المبالغة في نفع الناس، وألف كتاباً أسماه: (همع الهوامع)، وفي هذا الكتاب يعتمد السيوطي على ثقافة من يقرأ الكتاب، فإذا جاء ببعض الأبيات فقد يأتي بها مجزوءة، أو يأتي بأول المثل ويكتفي به، وهو لا يجهله، ولكنه اعتمد على كونه ألف هذا الكتاب لكبار الطلبة، وكبار الطلبة مظنة حفظ هذا.

ولما ضعف العلم بعده أخذ من يطلبون العلم يقرءون همع الهوامع فيجدون فيه إشكالاً من طريقين: أولهما أنه قل في الناس من يحفظ ما كان السيوطي يحفظه، وثانيهما أن بعضهم كان يقرؤه وهو لا يعرف منهج السيوطي في التأليف، حتى جاء علامة شنقيطي رحمه الله تعالى اسمه الشيخ محمد الشنقيطي توفي قبل اثنتين وتسعين سنة، فألف كتاباً أسماه: (الضوء اللامع على همع الهوامع) فما جزأه السيوطي رحمه الله تعالى ولم يفصل فيه فصله الشنقيطي رحمه الله في كتابه هذا، وأبان في المقدمة أن السيوطي رحمه الله ألف كتابه لكبار الطلبة.

وبعد ذلك الاستطراد أعود فأقول: إن الله جل وعلا أراد أن يعلم نبيه سنته جل وعلا في خلقه وأنبيائه الذين سبقوا، فقال تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنعام:١٠].