للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)]

ثم قال جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:٣٠].

هذه الآية يمكن تناولها من عدة وجوه: هذا الأمر كان قبل أن يخلق الله جل وعلا آدم، أخبر الملائكة أنه سيجعل في الأرض خليفة، قال بعض العلماء: إن آدم خليفة بمعنى: خليفة الله في الأرض في إعمارها، وهذا لا يستقيم شرعاً، ولا أرى أنه ينبغي أن يقال به؛ لأن الخليفة عن الشيء يكون من جنسه، وآدم مخلوق والله خالق، فنستبعد أن يكون المقصود بخليفة أي: خليفة عن الله.

ننتقل إلى مسألة أخرى: هل خليفة هنا بمعنى خليفة عمن سبق فيكون المعنى آدم خليفة عن غيره، أو خليفة اسم جنس أفرد أريد به الجمع، فيصبح الكلام ليس عن آدم بل عن ذريته التي من بعده.

على القول بأنه خليفة عمن كان يعمر الأرض، فقد ذكر المؤرخون أن الجن كانت تعمر الأرض، وهذا يستقيم نوعاً ما باعتبار أن الجن وآدم كلاهما مخلوق، وهذا القول عندي بعيد وإن كان قال به كثير من العلماء.

والظاهر أن خليفة هنا اسم جنس مفرد يراد به الجمع كقوله تعالى: {خَلائِفَ فِي الأَرْضِ} [يونس:١٤] ويقال: خلفاء الأرض، يعني: سأجعل من آدم ذرية يخلف بعضهم بعضاً، هذا معنى كلام الله لملائكته، فأين الدليل على أن اسم الجنس المفرد في اللغة أو في القرآن من باب أولى يأتي والمقصود به الجمع؟ قال الله في خاتمة سورة القمر: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر:٥٤] فأفرد نهر وقصد أنهاراً؛ لأن جنات جمع وأنهار جمع لكنه أفردها؛ لأنها اسم جنس، والدليل على أنه أراد أنهاراً أنه قال في آيات أخر: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الأعراف:٤٣]، وهذا القول اختاره ابن كثير رحمه الله تعالى، وهو أن خليفة هنا: اسم جنس أريد به الجمع، والمقصود به ذرية آدم، هذا تفصيل معنى خليفة.

قال القرطبي رحمه الله وغيره من العلماء: إن هذه الآية أصل في أن يتخذ الناس إماماً وخليفة.

ويتفرع عن هذا مسألة: هل اتخاذ الخليفة واجب بالشرع، أو واجب بالشرع والعقل، أو واجب بالعقل؟ قالت الشيعة الإمامية الإثنا عشرية: إنها واجبة بالعقل، وقال بعض العلماء: إنها واجبة بالشرع، والصواب: أنها واجبة بالشرع والعقل، هذه المسألة الأولى.

المسألة الثانية: ما هي طرائق أو صور تنصيب الإمام والخليفة شرعاً؟ لها عدة صور: الصورة الأولى: إجماع أهل الحل والعقد، أو اتفاق أكثرهم عليه، مثاله: خلافة الصديق، فإن الصحابة رضي الله عنهم من المهاجرين والأنصار أجمعوا على خلافة أبي بكر، هذا على القول بأن أبا بكر لم ينصبه النبي صلى الله عليه وسلم.

الصورة الثانية في تنصيب الخليفة المسلم: أن يوصي له من قبله، مثاله: خلافة عمر، فقد أوصى له أبو بكر بأن يكون خليفةً من بعده، كما وصى عمر للستة من بعده.

فإذا اتفقنا على إمام له بيعة شرعية وأوصى لواحد من بعده فأنت مطالب بما قاله الإمام الأول؛ لأن الأمام الأول له بيعة، فقوله نافذ، فإذا وصى لمن بعده فلا حاجة لأن تأتي بأهل الحل والعقد على الثاني، واضح؟ فلما وصى أبو بكر لـ عمر لم يجتمع الناس ليقرروا هل يوافقون على عمر أو لا يوافقون؛ لأن الأول كان له بيعة شرعية، وبدهي جداً أن يكون مما أمرنا بطاعته فيه اختياره لمن بعده.

الصورة الثالثة: أن يتغلب على الناس بسيفه وقوته، يأتي إنسان ويمكن له في الأرض بسيفه وقوته، ومثلوا بخلافة عبد الملك بن مروان، فإن عبد الملك بن مروان لم يوصي له من قبله، ولم يجتمع عليه أهل الحل والعقد، وإنما غلب الناس بيد الحجاج، فلما قتل الحجاج عبد الله بن الزبير دانت الأرض الإسلامية لـ عبد الملك بن مروان.

هذه الحالات الثلاث التي يكون بها تنصيب الإمام المسلم، وقلنا: إن هذه الآية أصل في قضية الخلافة.