للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً السميع البصير)

يقول ربنا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:١] قلنا: إن ليلاً هنا نكرت للتعظيم، أي: ليل وأي ليل، {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء:١] قلنا: إن المسجد الحرام يطلق في القرآن ويراد به واحد من أربعة: يراد به: مكة، ويطلق ويراد به: الحرم، وحدود الحرم جملة، ويطلق ويراد به: المسجد المحيط بالكعبة، ويطلق ويراد به: الكعبة.

قال تعالى: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:١]، وكلمة الأقصى وحدها لا تفيد تشريفاً بخلاف الحرام فتفيد تشريفاً، ولهذا قال الله بعدها: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:١]، فشرف المسجد الأول بقوله: {الْحَرَامِ} [الإسراء:١]، وفي الثاني بوصفه بقوله: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:١]، أرض الشام أرض مباركة، قال: ((لِنُرِيَهُ)) اللام للتعريف، أي: لنري نبينا صلى الله عليه وسلم، {مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:١]، وهنا نعود لما كنا قد أجلنا الحديث عنه، فنقول: لا ريب أن رؤية الله أعظم من رؤية آياته، فلو كان في رحلة الإسراء والمعراج أن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى ربه، والمقام مقام مدح وثناء وامتنان، لكان الذكر بأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه أعظم من الثناء عليه والامتنان عليه بأنه رأى آيات ربه: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:١]، والسميع والبصير اسمان من أسماء الله الحسنى، وقد اختارهما الله هنا بالتحديد لأن هذه الرحلة التي أكرم الله بها نبيه جاءت بعد عودته من الطائف، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو أثناء سيره من الطائف إلى مكة، فكانت مناسبة ذكر السميع: أن الله سمع دعاء نبيه واستجاب له: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي)، وأما البصير: فإن الرحلة كانت ليلاً، والله جل وعلا قادر على أن يحفظه ليلاً ونهاراً، لكن لما ذكر الليل كان أكمل؛ لأنه إذا قدر الله على حفظه بالليل فمن باب أولى أنه قادر على ذلك في النهار، والله على كل شيء قدير، ولهذا ذكر هذان الاسمان دون غيرهما في السياق: {إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:١].

إليك بعض المقارنات، فإن العرب تقول: وبضدها تتميز الأشياء: كان رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج هو جبريل، بدلاً من زيد، وهذا لا يقلل من شأن زيد، ثم إن الطائف كانت أرضاً مرتفعة ومع ذلك رده أهلها، وجبالها عالية على مكة يصطاف فيها الناس منذ القدم، وعن تلك الدار العالية عوضه الله بالسماوات السبع، وشتان بين سدرة المنتهى والطائف، ثم إنه دخل مكة بجوار المطعم بن عدي، يعني: لم يستطع أن يدخلها لوحده، بل دخلها في جوار رجل كافر مات على كفره، قال حسان: فلو كان مجد يخلد اليوم واحداً من الناس أبقى مجده الدهر اليوم مطعماً أي: لو حصل ذلك لكان هذا الشأن من شأن المطعم بن عدي.

هذا المطعم بن عدي دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في جواره، لكن في السماوات السبع لم يحتج صلى الله عليه وسلم أن يدخل في جوار أحد، إنما احتفى به الأنبياء والمرسلون لبيان كرامته عند ربه جل وعلا ولتكون معجزة ظاهرة له.