للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب إلى قوله: وليتبروا ما علوا تتبيراً)

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسائر من اقتفى آثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: كنا قد انتهينا إلى قول الله جل وعلا: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:٢ - ٣].

ثم قال الله جل وعلا بعد هاتين الآيتين الكريمتين: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء:٤ - ٨].

نقول بداية: الله جل وعلا يخلق ما يشاء ويختار، ونحن متفقون مع بني إسرائيل على أنهم في حقبة من الدهر اختارهم الله، فلا نرد كلام الله لأي عاطفة في قلوبنا، قال عز وجل: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:٣٢]، أي: عالم زمانهم.

وهذا كقول الله جل وعلا في حق كليمه موسى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:١٤٤]، أي: أهل زمانه، فموسى ليس أفضل من إبراهيم وهو قبله، وليس أفضل من محمد وهو بعده.

نعود فنقول: إن الله جل وعلا يعطي الرايات لأمم يختارها، وهذه الرايات تسوق بها هذه الأمة الأمم، وليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، فكلما كانت أمة من الأمم أقرب إلى الله ديناً أناط الله بها قيادة العالم.

فلما كانت الأرض في زمانهم مليئة بالوثنيين والطواغيت، وأخرج الله منهم كليمه موسى بن عمران واتبعوه وآمنوا به جعل الله جل وعلا الولاية في الأرض لهم دينياً، وهذا معنى قول الله: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:٣٢].

فلما غيروا وبدلوا، وسفكوا الدماء، وردوا على الله قوله، وقتلوا أنبياءه، أخذ الله منهم الولاية والزعامة، وأعطاها لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم ما زالوا على أحلامهم، فهم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم مصطفون، وعلى أن غيرهم أميون على حد زعمهم، ولهذا قال الله حكاية عنهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران:٧٥].

قال الله تعالى: {وَقَضَيْنَا} [الإسراء:٤]، والقضاء -أيها المبارك- في القرآن ورد بصيغ يجب أن تحررها حتى تفهم: فقد ورد القضاء بمعنى: الخلق في قوله سبحانه: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [فصلت:١٢] أي: فخلقهن سبع سماوات.

وورد القضاء بمعنى: الحكم: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ} [النمل:٧٨]، أي: يحكم بينهم.

وورد القضاء بمعنى: الأمر، ومنه قول الله جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:٢٣]، أي: أمر ربك.

هنا الله جل وعلا يخبر أنه قدر وأخبر بني إسرائيل: أن لهم علوان في الأرض يصحبهما إفسادان، وأن الله جل وعلا سيعليهم ذات مرة ثم يرد كيدهم بواسطة عباد له، ثم يجعل الغلبة مرة أخرى لبني إسرائيل، ثم يرد الكرة عليهم، وتكون كرة أخيرة؛ إذ ظاهر القرآن أنه لا يكون لهم بعدها ظهور.

وقد اتفق المفسرون: أن بني إسرائيل سيعلون مرتين، وهذا نص القرآن: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:٤]، وأنهم سيقهرون مرتين كذلك، فإن قيل: هل وقع لهم العلوان أم لا؟ ف

الجواب

بكل قال العلماء، وسنذكر بعض الأقوال دون النظر إلى من قال بها، ثم نبين موضع الإشكال في الآية الذي يردها.

قال بعض العلماء: إن كلا الأمرين وقعا قبل الإسلام، وهذا الجواب يرد عليه بالقرآن: فقد ذكر الله المسجد، ولا يعلم حسب تاريخ اليهود أن فريقاً واحداً حاربهم حول المسجد؛ لأن الله يقول: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:٧]، فالله تكلم عن طائفة واحدة.

وبعضهم يقول: إنه جالوت، وقول: إنه نبوخذ نصر ملك بابل، ستة قرون تقريباً قبل الميلاد.

وبعض الناس يقول: إنه حصل الأول، لكن الثاني لم يحصل، بل سيحصل في زماننا هذا، على ما نحن فيه من علو بني إسرائيل الموجود عالمياً اليوم.

وهؤلاء يقولون: إن العلو الأول قد ظهر لكن يبقى

السؤال

على يد من قهروا؟ فإذا قلنا: إنه قبل الإسلام، فهذا لا يستقيم مع القرآن؛ لأن القرآن - كما قلنا - يتكلم عن طائفة واحدة، لأن الله يقول: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} [الإسراء:٤ - ٦] أي: على الأولين الذين جاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولاً.

ثم قال جل وعلا: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء:٦] ثم ذكر الثانية: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:٧] فهم نفس الطائفة الأولى.

إذاً: يفهم من الآية أن الآية تتحدث عن صراع اليهود مع طائفة واحدة، ومعلوم قطعاً: أن عمر بن الخطاب فتح القدس سلماً، ولم تكن القدس أيام عمر تحت حكم اليهود، وإنما كانت تحت حكم النصارى.

وهناك قصيدة ذائعة أظنها للشاعر الفلسطيني خالد أبو العمرين التي يقول فيها: اضرب تحجرت القلوب فما لها إلا الحجر اضرب فمن كفـ ـيك ينهمر المطر في خان يونس في بلا طة في البوادي والحضر من فتية الأنفال والشورى ولقمان وحفاظ الزمر ثم يقول: في القدس قد نطق الحجر لا مؤتمر لا مؤتمر أنا لا أريد سوى عمر يقصد بلا مؤتمر لا مؤتمر: أي: للسلام هذا قصد الشاعر، لكن الشاعر هنا في ما أعلم أنه فلسطيني ولست متأكداً، لكنه يدل على أنه لم يحفظ السياق التاريخي؛ لأن قوله: لا مؤتمر لا مؤتمر، أنا لا أريد سوى عمر خطأ علمي؛ لأن عمر دخلها سلماً ولم يدخلها حرباً، ولم ينزعها من اليهود بالحرب، وأنت تتحدث عن اليهود والحرب، فهذا يجب استصحابه.

وقال آخرون: الإشكال كذلك في قول الله جل وعلا: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:٨]، وعسى من الله واجبة.

يقول المفسرون: وهذا يدل على أنهم داخلون في الرحمة، ومعلوم أن اليهود بعد الإسلام لا يسمون يهوداً إذا آمنوا، بل يسمون: مسلمين، ولا يمكن أن تصلهم رحمة بمفهومها الخاص وهم كفار.

والله يقول: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:٨] فقال بعضهم: إنهم كلما عادوا للإفساد عاد الله جل وعلا للتذليل والتنكيل بهم، ويستشهدون بأنهم في عصرنا هذا ظهر إفسادهم فسلط الله عليهم هتلر.

هذه كلها أقوال منثورة، لكنها إذا طبقت على الآية ومع السياق التاريخي فلا يمكن أن تتفق، والذي يترجح عندي: أن {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء:٨] ليس لها علاقة باليهود، ولا تتحدث عن بني إسرائيل؛ لأن عسى من الله واجبة، والله قد علم أن اليهود لن تعود لدين الإسلام، والتاريخ يشهد بهذا، وسنقاتلهم حتى قبيل قيام الساعة، ولو عادوا لما سموا يهوداً.

فـ {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:٨]، المخاطب بها: كل من آمن بالقرآن، هذا الذي أفهمه من الآية.

وإن قلت في بعض الدروس: إن المفسرين يقولون: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:٨] أي: كلما عدتم إلى الإفساد عدنا للتنكيل والعذاب، واستشهدوا بقضية هتلر، وقالوا: فسدوا في أول الزمان فسلط الله عليهم نبيه وأصحابه فأخرجوا بني النضير وبني قينقاع وبني قريظة، لكن قلنا: هذا لا يستقيم مع الآيات، الآيات تتحدث عن مسجد ولا تتحدث عن شيء عام.