للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (وإذا قرأت القرآن رجلاً مسحوراً)

ثم قال ربنا وهو أصدق القائلين: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء:٤٥ - ٤٧].

الله يقول: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ} [الإسراء:٤٦] تحتمل معنيين: إما وصفته بصفات التوحيد والتمجيد، وأنه لا إله معه، وهذا القول يدل عليه ظاهر القرآن: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:٣٥] أي: إذا ذكرت ربك موحداً إياه نافياً عنه الشرك: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء:٤٦]، لم يقبلوا منك هذا القول ونفروا منك.

والمعنى الثاني -ولا مانع من أخذ المعنيين- أن يكون المقصود: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ} [الإسراء:٤٦]، أي: كان حديثك عن الله وحده غير مختلط بأمور الدنيا، لكن قلنا: إن الأول أقوى في حق أهل الكفر، ودليله: أن الله يقول: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:١٢]، والمقصود: هؤلاء الكفرة، يقول الله: {حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء:٤٥]، هذه مفعول أصلها فاعل، يعني: حجاباً ساتراً، لكن أهل العلم يقولون: هل كان الحجاب حجاب بصر أم حجاباً على القلب؟ ظاهر الآية: أنه حجاب على القلب، ومن قال: إنه حجاب على البصر احتج بالقصة المعروفة، (أن أم جميل لما أنزل الله جل وعلا قوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:١] أتت إلى أبي بكر وبجواره رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يدها فهر - يعني: حجر كبير - وتريد أن تضرب به النبي صلى الله عليه وسلم، فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه ليحذر النبي عليه الصلاة والسلام فقال: إنها لن تراني)، وقرأ آيات منها هذه الآية: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء:٤٦] إلى أن قال: حجاباً مستوراً، فلما جاءت: سألت أبا بكر قائلة: إنه بلغني أن صاحبك يهجوني، فأخبرها أنه لا يهجوها، فقالت: مذمماً أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا فهي تقول: مذمماً، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فكأن الكلام لا يقع عليه.

والذي يعنينا هنا: أن الذين قالوا بحجاب الرؤية قالوا بهذا، لكن هذه حالة فردية، ولا أظنها تأخذ الحكم، وإنما هؤلاء لما في قلوبهم من الكفر منعهم الله جل وعلا أن يفقهوا كلامه، وأن يعتبروا بعظاته، قال الله تعالى: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء:٤٦ - ٤٧].

وردت في هذا آثار منها: أن بعض قريش كان إذا أمسى يأتي إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن فيتخذ مكاناً لا يراه فيه أحد، يسمع منه قراءة النبي عليه الصلاة والسلام، ففعل هذا بعض صناديدهم، ثم لما انصرفوا آخر الليل، جمعهم الطريق، فأخذوا يتناجون فيما بينهم ويتلاومون على أنهم قبلوا أن يسمعوا، وقالوا: لو رآنا عامة الناس لاحتجوا بنا؛ ولهذا مكثوا على هذا يومين أو ثلاثة ثم تعاهدوا ألا يفعلوه، فأخبر الله نبيه بهذا فقال: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء:٤٧].

ولا ريب أن قولهم: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء:٤٧]، واحداً من الأمثال التي ضربوها، وإلا فقد قالوا: إن النبي كاهن، وإن النبي مجنون، وإن النبي غير ذلك، كل ذلك يحاولوا أن يردوا به ما سمعوه من كلام الله، لذلك قال الله متعجباً من صنيعهم: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا} [الإسراء:٤٨] أي: لم يجدوا حيلة، ولم يهتدوا سبيلاً في وصفك، فلهذا قال الله بعدها: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء:٤٨].

بقيت نقطة مهمة في هذا الأمر كله: القلوب أوعية، وخير ما يملؤها ذكر الله، والإنسان يجد في قلبه ميلاً إلى شيء ما، فمن كان على الفطرة، ورزق العلم، وعرف السنة، وأحكم فهم القرآن، فإنه يجد في نفسه ميلاً إلى تلك المجالس التي يعظم فيها الله، ومن كان في قلبه ضد ذلك كله لم يبق قلبه على الفطرة، ولم ينهل من رحيق السنة، ولم يتدبر القرآن، ولم يرجو جنة، ولم يخش ناراً، فقد ختم على قلبه وطبع، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:٥]، فقد جبل قلبه وطبع على حب الهوى، والانصراف إلى الأحاديث التي لا يكون فيها ذكر للرب جل وعلا، فينجب عن هذا قسوة قلب لا يعلمها إلا الله، وقد قال بعض أهل الفضل: إن من أعظم الطرائق لمعرفة مكان قلبك من الله: أن تجد راحة قلبك في المجالس التي يعظم الله جل وعلا فيها ويذكر، وأنت ترى في زماننا هذا على وجه الخصوص أن كثيراً من الناس شغل، إما بصوارف مادية محسوسة تجاوزت حدها، كانصراف البعض إلى سوق الأسهم، وإن كان أصل التجارة مباحاً.

والأمر الثاني -وهو أشد وأنكى- الانصراف إلى الأقوال والمناظر التي تستهوي من تستهويه، بما يسمى: بالفيديو كليب أو الأفلام، أو الأغاني، حتى تصبح شغل الإنسان الشاغل، فكلما زاد تعلق القلب -عياذاً بالله- بمثل هذه الصوارف كان بمنأى عن الله، ولما كان بمنأى عن أن يرق قلبه إلى ذكر الله، وإلى المجالس التي يعظم فيها الله، دل هذا على قربه من طرائق أهل الإشراك، وبعده عن رحمة الرب تبارك وتعالى، وما نعى الله جل وعلا على أحد شيئاً بأعظم من نعيه على اشمئزاز قلبه إذا ذكر الله، وهذا -والعياذ بالله- منتهى الكفر، قال الله جل وعلا: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:٤٥]، وهذا نعي على قلوب لا تحن ولا ترق إذا ذكر الله جل وعلا، والقرآن قبل أن نخوض في قواعده النحوية، وطرائق البلغاء، ومسالك الفقهاء، يجب أن نفقه أن الله أنزله حتى يؤثر في قلوبنا، وقد مرت معنا علمياً -كما قال الزركشي وغيره- مرت معنا آيات منسوخة: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:٤٣]، وأنت تعلم أن هذه الآية منسوخة لا يعمل بها، وكم في القرآن من آيات منسوخة، لكن لماذا بقيت لفظاً؛ لأنها كلام الله، فهي وإن كانت منسوخة عملاً، لكن كفانا شرفاً أن نعرف أنها كلام الله، فيكون لها تأثير وواقع على قلوبنا، والإنسان يجب عليه أن يكون رقيباً حسيباً على نفسه، يرقى بنفسه إلى معالي الأمور، فيجعلها تقرب دائماً من القرآن، تتأدب بآدابه وتعمل بأحكامه، وتؤمن بمتشابهه، وأعظم من ذلك الآيات التي يخبر الله فيها عن ثنائه على نفسه، ومدحه لذاته العلية، هذا الذي يدنيك من مسالك الكمال، يدنيك من الكبير المتعال، يقربك من ربك، ويجعلك على صراط مستقيم بين، إذا كان القرآن هو الشيء الذي تأنس إلى تلاوته، وتحب أن تسمعه.

كما أن من أخطائنا في التربية: أن نربي أنفسنا على ألا نسمع إلا لقارئ أو قارئين أو ثلاثة، وهذا وإن كان أحياناً قد لا نستطيع الانفكاك منه؛ لأن الصوت الحسن له دور، كما قال صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم)، لكن من أراد المنتهى في الكمال فليتعظ بما يتلى لا بمن يتلو.

من هنا يفهم سياق الآيات الحقيقي: وهو أن الله جل وعلا ينعى على أهل الإشراك بغضهم لله، حتى إنهم لا يجدون لهم مكاناً في مواطن يعظم الله جل وعلا فيها، فينفرون ويبتعدون وينسبون فاعلها إلى السحر.

وعلى النقيض من ذلك: فأهل الإيمان إذا سمعوا القرآن حنت قلوبهم، ذرفت عيونهم، اقشعرت جلودهم؛ لأنه لا كلام بعد كلام الله: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انظُرْ} [الإسراء:٤٦ - ٤٨]، هذه مسوقة على سبيل التعجب والإنكار، {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ} [الإسراء:٤٨]، أي: تشتتوا.

فلا يدرون ماذا يقولون فيك، يبهرهم كلامك، يعلمون عظيم خطابك، لكنهم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم؛ ولهذا قال الله جل وعلا: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء:٤٨]، أي: لم يجدوا حيلة ولا طريقاً لوصفك بالوصف الحق؛ لأن الوصف الحق أنك نبي ورسول، وهؤلاء حال كفرهم وفجورهم وبغضهم لربهم أن يصفوك بالوصف الذي وصفك الله جل وعلا به.

إلى هنا ينتهي خطابنا؛ لأن الآيات التي بعدها مرتبطة بعضها ببعض، قال تعالى: {وَقَالُوا أَئ