للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا لك إن ربك فما يزيدهم إلا ظغياناً كبيراً)

ثم قال الله جل وعلا: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء:٦٠] فجميع الخلق تحت مشيئته لا يخرجون عن قدرته تبارك وتعالى، ومادام الخلق في قبضته فلن يسلطهم عليك، ولهذا قال بعض العلماء: إن الآية فيها إخبار عن عصمة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:٦٠]، رد هذه الآية إلى صدر السورة: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:١] تكلمنا عن حديث الإسراء تفصيلاً، ومر النبي صلى الله عليه وسلم على المسجد الأقصى ورأى في الملكوت الأعلى ما أعطاه الله جل وعلا له، وهو في جميع أحواله ملتزم بالأدب، يقول الله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:١٧]، فلما أصبح أخذ ناحية من نواحي البيت -والعرب في الجاهلية تجعل البيت موئلاً، والبيت مكاناً لاجتماع الناس؛ ولهذا قال أبو جهل: إني لأكثر أهل هذا الوادي نادياً، يعني: مجيباً النبي عليه الصلاة والسلام في صبيحة الإسراء والمعراج- ولم تكن الصلوات الخمس قد بدأت، فكان يصلي ركعتين قبل طلوع الشمس وركعتين قبل غروبها، فجاء وتنحى لوحده، فجاءه أبو جهل وكأنه رأى أن النبي على غير عادته فسأله فأخبره النبي بما وقع له عليه الصلاة والسلام، وهذا الرجل لما جبل عليه من الإشراك كان يملك جبروتاً عجيباً، وكان نحيلاً دقيق الشارب حاد النظر قلما يثبت أحد أمام ناظريه من قوة شخصيته، أدخلته قريشاً دار الندوة -وفي قوانين الجاهلية السابقة: أن دار الندوة لا يدخلها رجل دون الأربعين- وأدخل أبو جهل دار الندوة بعد سن المراهقة بقليل في العشرينيات؛ لأنفته وتوسمهم فيه قوة الشخصية.

فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه لمح أن النبي على غير عادته -وقد كان ذاك- فأخبره النبي بما وقع، فقال اللئيم: يا محمد! أرأيت إن دعوت لك قومك تخبرهم بما أخبرتني به، والنبي عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على أن يبلغ دعوة ربه، قال: نعم، فأضحى ينادي الناس ليستمعوا لمحمد صلوات الله وسلامه عليه على خلاف عادته في أنه يطرد الناس عنه، كل ذلك يريد المكر برسول الله، والله قد علم أن المجتمع المكي سينتقل إلى المجتمع المدني فالجيل الذي سيهاجر إلى المدينة لا بد أن يمحص فلا بد من اختبار عظيم يمحص هذا الجيل الذي سيرحل إلى المدينة؛ لأن الإسراء كان قبيل الهجرة بفترة قريبة، فوقف ينادي: يا بني قصي! يا بني كعب بن لؤي! يا بني عبد مناف! هلموا إلي فاجتمعوا، فقال أبو جهل: استمعوا إلى أخيكم فحدثهم النبي صلى الله عليه وسلم فكان قوله فتنة عظيمة لهم.

ولهذا قال الله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء:٦٠] أي: ما رأيته بعينيك في رحلة الإسراء والمعراج من عظائم الأمور التي قل ما يثبت لها قلب إلا من ثبتناه، وما أخبرت الناس به كافرهم ومؤمنهم كان فتنة لهم، ولهذا لما كان الصديق رضي الله عنه أعظم من ثبت في تلك الفتنة قلد القلادة العظمى فسمي بـ الصديق؛ لأنه تجاوز أعظم امتحان وأكبر فتنة وهي: فتنة الإخبار عن الإسراء والمعراج، قال: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء:٦٠].

ثم قال الله: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء:٦٠] والشجرة الملعونة في القرآن: هي شجرة الزقوم، قال الله جل وعلا: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:٦٤]، جاء أبو جهل وأمثاله من كفار قريش وقالوا: قد وقع محمد في شر كذبه يقول لنا: إن النار التي يتوعدنا ويتهددنا بها تحرق الحجارة ثم يزعم أن بها شجرة يخرج منها طعام، والنار لا يثبت أمامها الشجر، فأخذوا يتهكمون وتناسوا أن الله قادر على ذلك؛ لأن خاصية الحرق عند النار يسلبها الله تبارك وتعالى من هذه الشجرة.

ومن يعرف الله جل وعلا يعلم أنه يملك الأسباب ومسبباتها، وقد مر معنا أن التحريم قسمان: تحريم منع، وتحريم شرع، فتحريم الشرع ما أمرنا به: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:٣]، {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:٩٠]، أما تحريم المنع: فما أذن الله فيه لسبب أن يقع فيمنعه الله جل وعلا، مثاله: الأصل في الأرض: أنها تأكل أجساد بني آدم، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (فإن صلاتكم تبلغني) تعجبوا وقالوا: كيف نصلي عليك وقد أرمت؟ فقال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) وهذا ليس تحريم شرع، بل تحريم منع، والأصل في شفتي الطفل أن تقبل ثدي المرضع: لكن الله قال في حق كليمه موسى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:١٢] أي: منعنا شفتيه أن تقبل أثداء النساء.

والنار يدخلها العصاة الموحدون فيحرم الله على النار أن تأكل من بني آدم مواضع السجود، فهذا كله داخل في تحريم المنع، وهذه الحادثة مثلها: فقد تناسوا أن الله جل وعلا له القدرة المتناهية، وانشغلوا بحدود تفكيرهم التي لا تعترف بقدرة ربهم ولا بعظمته.

ولهذا من أخطاء الناس في التعليم: أنهم يقولون عند الحاجة أحياناً لا تبقى ملحة في توحيد الربوبية.

والحق: أن قريشاً وإن كانت تعلم أن الله هو الخالق الرازق كما نطق بذلك القرآن، لكنها تقف عند هذا الحد فقط، ولا تعرف لله جل وعلا صفات الجبروت والملكوت والعظمة فلم يؤثر فيها هذا العلم، يعني: لا يكفي فقط أن نقول للناس: إن الله جل وعلا هو الخالق الرازق المنعم المتفضل، لكن ينبغي الحديث عن صفات الله جل وعلا، والإغراق في الحديث عن صفات الله تبارك وتعالى وآثارها في الخلق، حتى يعرف الناس حقيقة عظمة ربهم.

فالجاهليون القرشيون الأوائل لما جهلوا هذا تهكموا بتلك الشجرة، قال الله: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء:٦٠] أي: جعلنا ذكر الشجرة فتنة للناس ليقولوا هذا الجواب متناسين أن الله جل وعلا خالق الأسباب والمسببات، وخالق كل شيء، ولما نظر المشركون في بابل بنفس الطريقة أتوا بإبراهيم فقيدوه بحبال ورموه في النار؛ لأن الأصل أن النار تأكل الأجساد فتلك الخاصية التي في النار سلبها الله منها وقال: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:٦٩]، فكانت النار برداً وسلاماً وانقلبت خصيصتها من كونها تحرق إلى كونها تحمي، وهذا لا يقدر عليه إلا الله، والنار مخلوق استجاب لأمر خالقه، فلما استجابت النار لأمر خالقها لم تضر إبراهيم ولم تحرق منه شيئاً، والله قال: (على إبراهيم) ولم يقل: على غيره، فحرقت القيد الذي هو مقيد به، وكان قد ألقي في النار عرياناً، فلم يخرج بقيده، بل خرج يمشي على رجليه فانقلب الضرر نفعاً، والنفع ضرراً عليهم؛ لأن الأمور كلها يدبرها العلي الكبير في الملكوت الأعلى، وتلك حقائق قلما يجهلها مؤمن، لكن القليل من يحاول أن يستذكرها مرة بعد مرة، وهي ما يبني الإيمان بحق في القلوب.

قال تعالى: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:٦٠]، وقد قلنا: إنه مر معنا قبل قليل أن الله جل وعلا أراد أن يستبقيهم فأبقى على التخويف ولم ينتقل معهم إلى مرحلة الإهلاك استبقاء لأصلهم؛ حتى يكون بعد ذلك منهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً كما وقع من كثير من أبناء الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.