للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً)

ثم انتقلت الآيات إلى شيء أخص وإلى موضوع أقصر، قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء:٦٧ - ٦٩].

من حيث الإجمال العام ربنا يقول: إن الضر كلمة عامة وهي في البحر أخوف منها في البر، وقد مر معنا أن عمراً بن العاص رضي الله تعالى عنه لما وصف البحر لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمر لم ير البحر ونبينا صلى الله عليه وسلم لم يركب البحر ولم يره، فلما وصفه له قال عمر رضي الله تعالى عنه: لا يسألني الله أنني حملت عليه مسلم.

فرفض أن يغزو المسلمون وأن يركب البحر في عهده.

هنا يقول الله لعباده: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:٦٧]، وقد مر معنا أن ضل تحتمل معاني كثيرة، لكن ضل هنا بمعنى: غاب واضمحل، لكنه لم يغب واقعاً بحيث أن هذا الإله الذي تعبدون عجز أن يصل إلى البحر، المسألة أعظم من ذلك، بل المقصود: أنه ضل حتى عندكم، فأنتم العاكفون على أصنامكم والمعظمون لها إذا رأيتم الضر في البحر كنتم أول من ينساها.

قال: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:٦٧]، فيخلصون الدعاء لله كما قال الله في سورة أخرى: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:٦٥]، وتبرءوا من كل آلهة يعبدونها من غير الله، وخلفوها وراء ظهرهم في معابدهم جثثاً هامدة، وأصناماً ثابتة لا تنفع ولا تضر.

قال تعالى: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء:٦٧]، أي: من حيث أصل الإنسان، لكن هناك من عصمه الله من الكفر.

ثم قال الله لهم مخاطباً أكباداً غليظة وعقولاً سقيمة: {أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} [الإسراء:٦٨]، أي: إنكم إن ظننتم أنكم صادقون في أنكم خرجتم من الخوف إلى الأمن، من جانب الرهبة إلى جانب الأمان، فخروجكم من البحر إلى البر لن يخرجكم من سلطانه سبحانه وتعالى، قال: {أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنتُمْ} [الإسراء:٦٨ - ٦٩]، وهذه لا يقولها إلا الله سبحانه.

قال: {أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى} [الإسراء:٦٩]، وهذا يكون بأن يبعث في نفسك بعد نجاتك الطمأنينة فتعود إلى البحر، فيسوقك إلى هلاكك، ويزجيك إلى قدرك، وهذا لا يقدر عليه إلا الله.

{أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء:٦٩]، المعنى الحرفي أي: لا تجدوا أحداً يطالب الله بما صنعه بكم.

لكن الآن تأمل فيما تشاهده في نشرات الأخبار، يأتي في التلفاز -مثلاً- نموذج يتسلط اليهود فيه على الفلسطينيين، فيحصل قتل، وسفك دماء، وأسر، فإذا بقيت الكاميرا ثابتة نقلت لك أصوات نساء أو صبيان أو غيرهم، يحاولون أن يخرجوا شيئاً من أضغانهم يتبعون بها ذلك المحتل، فإما أن المرأة تلعن، أو الصبي يصرخ، أو أحدهم يقذف بالحجارة، بل إن بهيمة الأنعام إذا ذكيتها وذبحتها تريد أن يكون فيها شيء من التبيع فتحرك أعضاءها، وكأن تلك الأعضاء تلومك على ما صنعت، وهذا التبيع يستطيع كل أحد أن يمتلكه إذا كان خصمه بشراً؛ مثلاً: رجل دخلوا عليه في بيته فقتلوا أبناءه وزوجته، وأخذوا كل شيء وتركوه، هو لن يخسر شيئاً إذا أتبعهم بلعنة أو قال بعدهم صرخة، فهذا هو التبيع.

لكن إذا كان المنتقم والله فإن هذا التبيع ينتفي، وهذا معنى قول الله جل وعلا: {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء:٦٩]، هذا تحرير الآية من حيث الإجمال.

أما من حيث ما فيهن من فوائد؛ فإن الله يقول: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ} [الإسراء:٦٧]، ولم يقل: وإذا أمسكم الضر لسببين: السبب الأول: يعلمنا الله جل وعلا التأدب في الخطاب معه، فلا ننسب الشر إليه مع يقيننا أن الله خالق كل شيء.

والسبب الثاني -وهو سبب جلي-: أن هناك معنىً خفياً يعلمنا فيه الله التبرؤ من الشر، وأن ننأى بأنفسنا عن مواطن الأذى، فهذا هو المقصود من عدم نسبة الشر إليه سبحانه.

قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} [الإسراء:٦٧ - ٦٨]، الخسف: الهلاك من الأسفل.

{أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الإسراء:٦٨]، أي: ريحاً محملة بالحصباء وهي: الحجارة الصغيرة.

{ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ} [الإسراء:٦٨ - ٩٦]، والريح إذا كانت في البحر سميت: قاصفاً، وإذا كانت في البر سميت: عاصفاً، وبعض العلماء يقول: إنها تطلق على الاثنين.

قال الله جل وعلا: {فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ} [الإسراء:٦٩]، وهذا بيان لسبب الإغراق، لكن هذا في حالة الانتقام، وإلا فقد يغرق المؤمن في البحر ولا يكون المقصود منه النكال به، لكن يجري هذا بقدر الله: {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء:٦٩].