للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[(فرحين بما آتاهم الله من فضله)]

قال الله: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ} [الإسراء:٧١]، ولاحظ الآن الانتقال من الإفراد إلى الجمع، قال في الأول: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الإسراء:٧١] ثم قال: {فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ} [الإسراء:٧١]، والصورة تتضح في أن أهل اليمين -جعلنا الله وإياكم منهم- يأخذ أحدهم كتابه بيمينه، وبمجرد أن يأخذه بيمينه يعرف أنه على خير.

فإذا عرف أنه رزق خيراً أحب أن يطلع الناس عليه، ليس كمن تلبس بالعار، فيأتون جماعات بعضهم إلى بعض، ولهذا جمع الله بعدها فقال: {فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ} [الإسراء:٧١]؛ لأنهم فرحون بما يقرءون، فيصبح تلقيهم للكتاب فردياً، وقراءتهم للكتاب جماعية، ولم يذكر الله هنا أصحاب الشمال، قال بعض العلماء: إنهم لا يستطيعون قراءته.

وبعضهم يقول: ولو قرأه فلن يستطيع أن يظهره لأحد؛ ولهذا قال الله جل وعلا: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:٢٥ - ٢٦].

قال الله: {فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [الإسراء:٧١]، والفتيل هو: النتوء الظاهر في شق النواة، والمقصود منه: لا ينقص من أجورهم شيئاً.

ثم قال الله بعدها: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى} [الإسراء:٧٢]، أي: في الدنيا.

{فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء:٧٢]، مبدئياً: فإن العمى المقصود به هنا: عمى القلوب، لكن النحويين عند هذه الآية يظهر لهم إشكال، يقولون: إن الصناعة النحوية تأبى أن يصاغ فعل التعجب أو التفضيل على وزنه من غير فعل مساعد مؤنث، وصفة الفعل على وزن أفعل فعلاء، مثلاً يقال: رجل أعمى وامرأة عمياء، يقولون: في مثل هذه الحالة لا يصاغ منه تعجب، ولا يصاغ منه تفضيل.

وهذه الآية: هي قول الله جل وعلا بعدها: {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء:٧٢]، فهناك قرينة على أن القضية قضية تفضيل، أي: أشد عمىً، ولهم في ذلك مخارج أسلمها أن يقال: إن هذا من باب السماع الذي لا يقاس عليه، وأنت تعلم أن الأصل في اللغة: هو السماع، وهذه قاعدة مهمة جداً في طلب النحو وفي طلب اللغة عموماً، فقالوا: مثل هذا سمع من العرب، وهو موجود في القرآن أصلاً، ولا يمكن أن يقاس عليه.

وبعضهم يخرجها تخريجاً أجمل من ذلك فيقول: إن المقصود هنا ليس عمى البصر، وهو الذي يمتنع فيه التفاضل، أما عمى القلب فيصح فيه التفاضل، لكن هذا يحتاج إلى شاهد من كلام العرب، ولا أعلم له شاهداً.