للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين)]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فقد انتهينا إلى قول الله جل وعلا: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:٨١]، واليوم نستفتح بقول ربنا جل وعلا: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:٨٢].

يخبر ربنا جل وعلا أنه أحيا بالقرآن قلوب البشر، وجعله أعظم معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو يعاود الحديث عنه حيناً بعد حين في هذه الآيات العظيمة من سورة الإسراء -السورة المكية- ليبين لهؤلاء القرشيين أن دعواكم في نقض هذا القرآن، أو طلبكم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يفتري غيره طلب لا سبيل إليه، فيكرر عليهم ما يغيظ قلوبهم، ويثبت قلب نبيه.

يقول تعالى: {وَنُنَزِّلُ} [الإسراء:٨٢]، وهذا إشعار إلى أن الأمر متتابع.

{مِنَ الْقُرْآنِ} [الإسراء:٨٢]، (من) هنا هل هي بيانية أم تبعيضية؟ بكل قال العلماء، ورجح ابن القيم رحمة الله تعالى عليه على أنها هنا بيانية، فيصبح كل القرآن بهذا المعنى شفاءً ورحمة.

وإذا قلنا: بأنها تبعيضية؛ فإن المعنى يكون أن القرآن كله رحمة بالاتفاق، س وكله شفاء لأمراض القلوب، من الشك والجهل والريب بالاتفاق، لكن الخلاف يكمن في كون القرآن شفاء كله لما يصيب الأبدان من جراحات وأسقام وأضرابها، وهذا محل النزاع.

فذهب بعض العلماء إلى أنه شفاء كله، وجعلوا (من) هنا بيانية، وأخذوا بعموم الآية {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} [الإسراء:٨٢]، لكن هل يلزم من قول البعض أن (من) بعضية أن بعض القرآن ليس بشفاء؟ هذا لا يلزم، وقد قال ابن عطية به رحمة الله تعالى عليه في (المحرر الوجيز)، وهو أن ذلك لا يكون ذلك قدحاً في القرآن.

والذي تطمئن إليه النفس: أن يعلم أن القرآن رحمة وشفاء بلا شك لكل أمراض القلوب المعنوية، وأنه لا توجد رحمة أعظم منه؛ لأن فيه الهدى والنور، ثم تأتي أمراض الأبدان بعد ذلك تبعاً لا قصداً، إذ لو كانت مقصودة لما أذن النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة أن يتطببوا عند بعض من عرف بالطب عند العرب؛ لأنه لا يعقل أنه يجوز العدول عن الأمثل إلى ما هو دونه، كما أنه لا يجوز لأحد أن يبحث عن دواء لقلبه وريبه وجهله وشكه أعظم من القرآن، فلو كان القرآن كذلك في نفس المنزلة لمرض الأبدان لما جاز لأحد أن يذهب إلى الأطباء، لكن القرآن أنزل لأمراض الشك والريب والجهل، وليكون رحمة تنفع المؤمن في دنياه وآخرته، فالذي نرجحه: أن (من) هنا تبعيضية، والعلم عند الله.

قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:٨٢]، والخسارة التي ينالها الكافر بسبب القرآن ليست ناجمة عن القرآن نفسه، وإنما ناجمة عن كفر الكافر، أي: أن عدم أهليته لتقبل رحمة الله هي التي جعلته يزداد خسارة، ويزداد خسراناً بأن يصبح القرآن أعظم حجة عليه فيزداد خسرانه؛ لأنه يلقى الله جل وعلا بلا حجة، وقد قامت عليه الحجج والشواهد والبراهين كما أثبت الله، وهذه الآية ظاهرة.